تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


معلوف متجاهلاً العقل العربي

ملحق ثقافي
19/1/2010
المؤلف:فائزة داود: يبدأ الروائي الفرانكفوني أمين معلوف روايته سلالم الشرق بعبارة «لا تحمل هذه الرواية شيئا مني»

ويعلمنا من الصفحة الأولى أن مهمته اقتصرت على ترتيب الكلمات وتشذيب الحقائق. بعد ذلك يحدثنا عن الراوي ويدعي انه رأى صورته في أحد كتب التاريخ وفي باخرة تقول الأسطورة أن عددا من رجال البلد القديم «الشرق» قد قاتلوا في أوروبا ضمن صفوف المقاومة بعد ذلك ولكي يعطي لروايته بعض المصداقية التاريخية يدعي أنه قرأ تاريخ الشرق بحذق بدءا من العصور القديمة حتى الاستقلال من الانتداب الفرنسي بعد ذلك يحدد الكاتب لنا مكان اللقاء فنعلم أنه في باريس « شارع هوبيرت-المقاومة- 1919-1944 ».‏

بعد ذلك تتالى اللقاءات ونعلم من خلالها أن الراوي من عائلة حكمت الشرق طويلا لتبدأ بعد ذلك الحكاية حيث يصبح الراوي في صباح الخميس كجدول حجزت ماؤه لوقت طويل وفجأة فتحت فيه ثغرة ما، كذلك بدأ الكلام وانطلق الكاتب لتسجيل حياة الرواي التي بدأت منذ نصف قرن في اسطنبول، مع أحد السلاطين العثمانيين، وهذا السلطان خلع من قبل ابن أخيه وجلس مكانه، بعد ذلك تعثر ابنة السلطان المخلوع إيفيت على والدها ميتاً فتفقد عقلها ويتم استدعاء الطبيب «كنا بديار العجوز الفارسي» ليعالجها فيشفق عليها وتصبح زوجته لتنجب والد الراوي، إذن أوسيان هو حفيد لمجنونة تركية ولعجوز فارسي، ولا ينسى الراوي أن يشير إلى أن والده كان منبوذاً وهذا ما جعله يقيم علاقة صداقة قوية ومتينة مع نوبار الأرمني «علاقة كهذه بين أرمني وتركي كانت تبدو غير عادية في ذلك العصر، إنها مغالطة تاريخية، إنها علاقة فاسدة بنظرهم» طبعاً يقصد الأتراك وقد أسميت بحلقة التصوير الضوئي حيث أغرم الصديقان بما أسماه الكاتب «صديقتهم الأوروبية الطاهرة» طبعاً يقصد الكاميرا، لكن هذا الغرام لم يستمر حيث قام ضابط بمصادرة كاميرتي الصديقين حين كانا يلتقطان صور المجازر التركية ضد الأرمن، وهنا كان على نوبار اختيار المنفى، فالأرمن هربوا من أضنة واجتمعوا في العاصمة ويعلق نوبار الأرمني على هذا الهروب «أيهربون من مخالب النمر ليجتمعوا في فمه؟ ليس أنا» وبعد طرح عدة خيارات توجهوا إلى جبل لبنان وهناك تزوج والد الراوي من ابنة الأرمني سيسيل واحتفل بهذا الزواج «الأتراك والأرمن والعرب واليونان واليهود» الأصابع الخمسة ليد السلطان المبجلة التي ستصفق كثيراً لهكذا زواج، استقر الزوجان في منزل فخم تصدرت صالته الرئيسية صورة مثيري الشغب ضد الأرمن برؤوسهم المعصوبة ووجوههم المبللة بالعرق تحت ضوء نيران المشاعل الحاقدة، وفي الصيف الذي تزوج فيه والده التركي الفارسي من أمه الأرمنية بدأت المذابح في أضنة كما في كل أرجاء الأناضول، وصف الراوي تلك الحرب كشاهد عيان مع أنه ولد في عام 1919 أي بعد اندلاعها بثلاث أو أربع سنوات وهو الولد الثاني وتوفيت أمه بعد أن ولدت سالم، ويفرد الراوي صفحات للحديث عن أخيه الصغير فمثلاً يعترف بأن أخاه كان مكروهاً لأنه تسبب بوفاة والدته وهو مختلف عن العائلة كلها، حيث كان بديناً منذ نعومة أظفاره شرهاً كخنزير، لصاً منافقاً كذاباً، ويرى أنه لا يستحق اسم سالم المالوف اللطيف على السمع، ولا يناسب طفلاً توفيت والدته بسببه، ويكرر الراوي هذه العبارة بحقد غريب يجعل القارئ يتساءل إن كان فعلاً يتحدث عن أخ غير أو عن عدو مخيف، في حين يتحدث الراوي عن نفسه على لسان والده من أنه من الرجال المميزين الثوريين الذين يثبتون أقدامهم في الشرق ويتطلعون إلى الغرب، وهو المرسل الذي ينتظر منه اجتراح العجائب، على يده سيتغير وجه العالم ولذلك قدم له والده سيرة الفاتحين وأعظم الثوريين. في حين كان قد اتخذ قراراً بأن يدرس طب الأمراض العقلية والعصبية وما دفعه لاتخاذ هذا القرار جدته المختلة عقلياً وباركه والده فيما بعد، وبينما كان على ظهر الباخرة شامبليون المتوجهة إلى مرسيليا قرر أن يسترخي ولا يسمح لأي كان بأن يكلمه عن الثورة والنضال ونهضة الشرق والمستقبل المشرق. مساء الخميس يعترف الراوي بأنه عاد من فرنسا بعد ثماني سنوات متوجاً بمجد التمرد المقدس وبدون شهادة الطب وهذا ما كان والده يحلم به ويعلم أن هذا التمرد كان ضد النازية وباسم مستعار «باكو» وهذا الاسم مشتق من الاسم الذي كان يطلقه عليه جده نوبار ويعني بالأرمنية مستقبل، ومن ثم ومن ملاطفة لأخرى أصبح الاسم باكو، وهذا الاسم سيعرف به أوسيان أو عصيان بين أفراد الشبكة وبه سيبدأ بتوزيع صحيفة « حرية « حيث قام بتسليمها في ليون في شقة لأفراد الشبكة التي ينتمي إليها، ويتحدث الراوي بفخر عن تمرده المقدس ضد النازية وعن طريقة توزيعه للمجلة ومعاناته وحذره الشديد أثناء نشاطه المقدس هذا وبعد اكتشافه كفرد من المجموعة وصل إلى منزل وتعرف من خلاله على المناضلة اليهودية كلارا إيمون، ويخبرنا بأن الفتاة فقدت كل أهلها، قسم منهم مات وتفرق اخرون في أماكن الرعب بينما الفتاة وجدت نفسها لدى صديقة كاثوليكية، بعد هذا اللقاء يسمي كلارا بالرفيقة. وبعد اكتشافه كموزع لصحيفة الحرية ينتقل باكو أو بيكار كما اسمي فيما بعد، بعد تغيير هويته الشخصية ليصبح ابناً لفرنسي ومسلمة ويصبح مهندساً في إصلاح الأدوات الطبية كمهنة. موزعاً للنشرات و ملخصات استخدام الأجهزة وفي الوقت ذاته كان مسؤولاً عن تأمين الاتصال بين الزعماء والوطنيين من الشبكة ومسؤولي المناطق ومختلف المجموعات المعزولة عن المقاومة وكذلك إيصال الأوامر والتوجيهات والطلبات والمعلومات والمستندات والأوراق المزورة أحياناً، بعد ذلك يتحدث عن تجربته في السجن ومن ثم هروبه من ناقلة تعرضت لطلقات أفراد الشبكة، يعود أوسيان إلى أرض الوطن وتستقبله الحشود الهاتفة المصطفة على جانبي الرصيف كبطل قومي كبير، لكن الفرحة لم تكتمل حيث يبدأ الوالد حديثه عن سالم :» أخوك سالم... ملعون اليوم الذي ولد فيه «. يبدأ الراوي بعد عودته إلى بيته بالحديث عن أخيه، و يعلن أن سالم مهرب لكل الممنوعات وخاصة الأسلحة والذخيرة، وكأن الراوي عاد ليقول أن البلاء والمصائب التي منيت بها المنطقة مدينة لقذارة سالم التي يقابلها تمرد ثوري مقدس عند البطل طارت شهرته من غرب المتوسط حتى وصلت إلى شرقه ويعبر الراوي عن هذا التناقض بقوله « ما رآه أبي في ذلك الوقت كان أولا إعادة رد اعتبارنا، ألم يلطخ أخي اسمنا ومنزلنا ؟ لقد أزال التحاقي بالمقاومة هذه الوساخة، ألم يؤدي هذا العار لأن يبتعد الناس عن منزلنا ؟ أعادتهم عودتي بهذا المجد إلينا، كان جاهزاً بعد ذلك لاستقبالهم دون ضغينة ولكن برغبة الثأر لمصيره فقط «.‏

يعود الراوي إلى كلارا التي أتت لتواسيه، ثم يعلم أنها جاءت مع خالها ستيفان ليستقرا في حيفا وتصبح فيما بعد زوجته على الأنظمة الفرنسية فيما الاحتفال يتم في لبنان، وينوه الراوي إلى التقارب اليهودي الإسلامي في حفل زواجه وهو تقارب جسده ستيفان خال كلارا اليهودي و صهره محمود كرملي، ولم ينس الراوي أن يذكر شهادة أحد منظمي الاحتفال قال فيها : أنه يرى في زواجنا حدثاً هاماً وفي حبنا تكذيبا للحقد، بعد ذلك يتحدث الراوي عن تنقله مع زوجته بين فلسطين ولبنان هذا التنقل يتوقف بعد وفاة والد أوسيان وعندما يصاب الأخير بضربة شمس أثناء عملية دفن والده تؤدي إلى هذيان وارتفاع في الحرارة، وتحضر حالة جدته العثمانية أمامه ويقع تحت سلطة سالم الذي يرميه في ملجأ للمرضى النفسيين حيث يقيم فيه ما يقارب ربع قرن ويهرب منه هو وجميع السجناء على وقع الرصاص أي في عام 1975 وهو العام الذي بدأت فيه الحرب الأهلية اللبنانية حيث يخرج الراوي ويبحث عن بيته فيجده أنقاضاً على جسد سالم.‏

تنتهي الرواية في باريس وتحديداً على جسر نهر السين حيث كلارا وأوسيان ممسكان بأيدي بعضهما.‏

يسمى النمط الروائي الذي اشتغل عليه أمين معلوف « الرواية النهر « حيث تناول فيها حياة أربعة أجيال : الراوي، إيفيت الجدة، ابنة السلطان التركي المخلوع، ثم والده الذي تجاهل اسمه كما تجاهل اسم جده لأبيه في حين ذكر جده لأمه « نوبار « ثم أوسيان، وأخيراً نادية ثمرة زواجه من كلارا، ولنلاحظ أنه أشار إلى ذلك من خلال الأصابع الخمسة والتي تعني الفارسية، التركية، الأرمنية، اليهودية، وأخيراً العربية، ولنلاحظ أن الفارسية تعني» كنا بديار» جده لأبيه والتركية « ايفيت «جدته لأبيه، والأرمنية « نوبار»جده لأمه واليهودية «كلارا «فأين الإصبع الخامسة ؟ نلاحظ أن لا وجود لهذه الإصبع إلا من خلال المكان وهو هنا جبل لبنان وقد يكون سالم الذي التصق بالمكان ولم يبرحه أبداً هو الإصبع الخامسة، ولذلك يصب عليه أوسيان جام غضبه وحقده حتى يخيل إلينا أنه عدوه الأوحد، فهو لعنة لأنه تسبب في موت أمه وهو بليد ولص، ومهرب ويلتهم الطعام كالخنزير، وهو الذي استغل ضربة الشمس التي أصابت أوسيان ليدخله إلى العصفورية وبذلك يمنعه من لقاء كلارا اليهودية التي اتخذت من حيفا سكناً لها، ويظل سجين العصفورية حتى نشوب الحرب الأهلية اللبنانية. إذن حرية أوسيان انتهت بعد استقلال لبنان وسورية وتحديداً بعد عامين أو ثلاثة من عودته إلى أرض الوطن متوجاً بمجد التمرد المقدس والنضال ضد النازية التي لم يقتصر شرها على ألمانيا وفرنسا بل كذلك على اليهود. والحرية بدأت مع نشوب الحرب الأهلية اللبنانية. طبعاً ليس غريباً على أوسيان الفارسي والتركي والأرمني ومن ثم المتزوج من يهودية أن يكون له هذه المواقف الحاقدة والمدمرة، لكن الغريب إشارته أو لنقل تنكره لأي وجود عربي في المنطقة التي حكمها العثمانيون أربعة قرون ونيف، وكأن الكاتب باعتماده على شخصية الراوي ينفي أي وجود للعروبة، ورغم أن الفترة الفاصلة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية قد شهدت يقظة قومية عربية، إلا أننا لا نلمح حتى إشارة إلى ذلك، ولا شيء في ذلك المكان إلا الفرنسيين المحبوبين من الشعب وتمرد أوسيان وسرقة سالم وتهريبه للأسلحة والذخيرة. وهذا النهج الإبداعي هو حكر لأمين معلوف حيث يعتمد في أعماله الروائية جميعها « عدا حدائق النور « على مخاطبة العقل الغربي متجاهلاً العقل العربي، أو دعونا نقول إن أمين معلوف كاتب فرانكفوني كما أسمى نفسه، فلو كان كذلك لكان أكثر أمانة تاريخية واشتغل على التاريخ الذي يعشقه كما ذكر في بداية الرواية، وعلى علم به بدءاً من أمجاد العصور القديمة والمدن الفينيقية إلى غزوات الإسكندر ثم الرومان والبيزنطيين والعرب والصليبيين والمماليك لنصل إلى القرون الأربعة من السيطرة العثمانية وتنتهي بالحربين العالميتين والانتداب الفرنسي.‏

هكذا يقدم أمين معلوف نفسه، ورغم ذلك ينطبق على أعماله مقولة ماركيز « من الطبيعي أن يمعنوا في قياسنا بالمعايير ذاتها التي يقيسون بها أنفسهم، ولكن عندما نصور وفق نماذج لا تمت إلينا بصلة فإن ذلك لن يخدم إلا غاية واحدة هي أن نغدو مجهولين أكثر وأقل حرية وأشد عزلة «.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية