تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عندما تشيخ الذئاب : حيـــــــوات قلقـــــة..

كتب
الأربعاء 20-1-2010
أحمد علي هلال

منذ روايته الأولى «الطريق إلى بلحارث» وما انطوت عليه من مقاربة للنهايات ولاسيما «نهايات زمن البساطة الذي ولدت ونشرت فيه » عام 1982 وما تبعها من أعمال دالة مثل « مخلفات الزوابع الأخيرة، ليلة الريش »

وغيرها دون تجاوز المجموعات القصصية ابتداء من رجل خالي الذهن وما جرى يوم الخميس. تتكشف لدى الروائي والقاص الفلسطيني - الأردني جمال ناجي مغامرة روائية باذخة في تشكيل أسئلتها ، وحدوسها، وتحلينا بوعيها المضاعف والمزدوج بآن، لاستبطان ذاته الروائية في تعاقدها مع فعل الكتابة بوصفه فعل «استرجاع للدهشة» وقبض على لحظات مضيئة قبل أن تخبو وتمارس قطيعتها الجمالية أو قحطها.‏

وتلك الذات التي تنفتح على الأزمنة والأمكنة والوجوه والذكريات ، هل ستكون ممراً لنزوات وغايات يتجمع العالم عبرها، أو هل ستمارس الشخصيات والأحداث والأمكنة والأزمنة «خبثها الجماعي» على الذات الروائية لتمر من خلالها إلى عالم الرواية الساحر.‏

وهكذا تسفر اجازة التفرغ الإبداعي للروائي جمال ناجي عن روايته «عندما تشيخ الذئاب» لتستأنف أسئلته وتشكيل روحه وهواجسه الأعلى في مدونة سردية مختلفة إذ لا يعاني «ارتجاف الأمكنة تحت قدميه وانزلاق روحه على مسنناتها» وقسوة الاندغام فيها، فحسب بل يذهب الروائي دافعاً مغامرته ومدفوعاً بها إلى الأقاصي والتخوم، حيث بوصلة روائية تخطفنا إلى قول روائي لا يهجو تشظي الأمكنة بقدر ما يعاين النهايات المحتملة لشخصياته وبدرامية متواترة ليعطي يعاني مجازه في تأويل الفساد والانهيار الفكري والاجتماعي والأخلاقي ، وقبل ذلك نقف على مكر الرواية ذاتها في إيحاءات وقائعيتها وانحيازها إلى حقيقة قادرة على حماية نفسها ، على الرغم من امحاء الحدود ما بين الواقع والمتخيل ، ويبدو أن الروائي - ذاته- قد وقف على مسافة واحدة من شخصياته التي تتولى سرد الحكاية، الحكاية التي تنفتح على فضاء القارئ بامتياز باستخدامه تقنية تعدد الأصوات «البوليفونية» بمستوياتها الحوارية (الداخلية والخارجية) انطلاقاً من شخصية درامية كثيفة هي سندس التي تبتدىء الرواية عن عزمي الوجيه الذي أذلها ثلاث مرات ، وكأنها تقدم تلخيصاً للحكاية التي تتواتر، بتواتر الأسماء وأفعالها، فالإذلال الأول كان في بيت والده رباح الوجيه الذي أغرم بها وتزوجها ، والثاني حينما ضبطها في «الغرفة الدخانية» في دار الشيخ عبد الحميد الجنزير أما الثالث فبعدها بثلاثة عشر عاماً حينما بلغت الثامنة والثلاثين من عمرها.‏

وتبدو سندس الأنثى الجامحة، في سيرتها الملتبسة نموذجاً نسوياً متمرداً، جريئاً، حراً، سيرة زواجاتها المتعددة وغرامها الخفي بعزمي الوجيه، الذي تقودنا الرواية إلى احتمالات ، ألا يكون ابناً شرعياً لرباح الوجيه، وهو يدفع لأن تتزوج غير مرة دون أن يتخلى عن دوره كعشيق سري لها، وبالمقابل ثمة شخصيات تتقاطع في سيرها مع سيرة سندس، ولاسيما عبد الحميد الجنزير الذي يسعى للاقتران بها بعد زوجاته الثلاث، أما جبران وبكر الطايل فيتناوبان في سرد الأحداث كل من موقعه الفكري أو الأيديولوجي لتتكامل سيرة مفخخة بشتى التأويلات لأنواع العلاقات الاجتماعية، ودنيا القاع الاجتماعي ورويداً رويداً تنتزع الأقنعة لتتكشف لنا مصائر حيوات في صعودها وهبوطها لكأنها صور تاريخ للأمكنة «عمان» وأزمنتها، والعلاقات الخفية التي تصنع المصائر، لماذا سندس ومكرها وغواياتها؟‏

هل استعارة لروح المكان وهي تدخل دائرة وعي فردي وجمعي ولماذا يكون جسدها دالاً روائياً يظهر عجز من يقترب منه في رهان على عشق لن يتحقق فمن يمتلك سحر ترويضها وأسرار تذويب كتلتها ،جسدها مبعث قلق وعذاب لها لكن الرواية لن تكتفي بإبراز مفارقات نسوية للشخصيات النسوية مثل جليلة يتلبسها الجن وتتخلص منه فيما بعد، وزوجة جبران السياسي، التي تفشل في الرسم فتذهب إلى نشاطات ثقافية عامة وتحتفظ بقلادة الليرات العثمانية بل تضعنا في قلب الصراعات الحادة لأصحاب النفوذ السياسيين والمتدينين وأصحاب رؤوس المال ورجال الأعمال وغيرهم وفي تخوم الحياة في «الأحياء السفلية» التي يقطنها المهمشون وفي صميم الفوضى الخلاقة التي تدير الأفكار والمبادئ لنقف على التحولات الحادة التي تشهدها شخصيات مثل عزمي الوجيه، المطارد أخيراً بتهمة الفساد، والمتواري بعد نجاته من محاولة اغتياله على يد بكر الطايل وبإيحاء من الروائي جمال ناجي يذهب إلى هدم قواعد اللعبة ليقول إن حياة الفرد لا تصمم على نحو معين وإنما هو الذي يسهم في رسم مساربها بوعي منه أو من دون وعي وهو يذهب أكثر ليهجو التفكك الاجتماعي لشخصيات أسيرة ماضيها باحثة عن شرطها الاجتماعي في حيز مختل من تقاطع المصالح والأهواء والرغبات باستحضار مرجعياتها ليقارب انقلاباً قيمياً «وظل فرز السياسيين والمثقفين مستنداً إلى ماضيهم أكثر من حاضرهم بصرف النظر عما تغير في سلوكهم الطبقي أو الاجتماعي.‏

تبرع الرواية في إضاءة جوانب معتمة من الشخصيات في بوحها أو اعترافها لتفسر مركباتها السيكولوجية أو الفكرية ولاسيما جبران والجنزير وعزمي الوجيه وتناوش الرواية كثيراً من المسكوت عنه دون أن تتخلى عن شرط الفن بحثاً عن المعادل الجمالي لغواية الكتابة ذاتها من حيث مقاومتها لكنها وهي تتجاوز «أفخاخها» لتعطي رؤيتها وخطابها ليس في اختراق التابوات بل بطريقة الاختراق وتوليفات الذاكرة في رواية لم يبتعد فيها الروائي جمال ناجي عن توزيع حدوسه ورؤيته على شخصياته التي تضافر سردها ليؤثث حكاية بعنوان ملغز وكنائي ومفارق يحيل على قسوة الحكاية وقهر الأمكنة وانزياحات المبادئ في نسيج روائي مشغول بإحداثيات المكان والأشخاص حينما يفقدان براءتهما جزئياً أو كلياً ، في لعبة كشف وتعرف وفي مناخ تبادلي لا يعصم الشخصيات من أن تنزلق لنهاياتها المحتملة وسط اشتباك الروح والبدن والعقل، والكلمات والأوهام ، والهروب المستمر إلى النسيان .‏

الكتاب عندما تشيخ الذئاب - الكاتب: جمال ناجي - الناشر:وزارة الثقافة -عمان 2008 - سلسلة اصدارت مشروع التفرغ الإبداعي‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية