تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


يانصيب تشيكوف

ثقافة
الأربعاء 20-1-2010م
هاني الخير

يجافي الحقيقة من يظن أن اليانصيب ابتكار حديث، أوجده أحد المفلسين، للحصول على المال الوفير الذي يبهج الكثير من النفوس،

خلال مدة وجيزة قد لا تتعدى الأسبوع، ذلك لأن تجربة الحظ العبثي، والأرقام الستة الصماء التي تشكل مجتمعة حسب ظهورها المتسلسل على عجلات الثروة الدائرة بإيقاع سريع نتيجة الجهد العضلي، هي الأساس الذي يقوم عليه اليانصيب في كثير من الدول، التي لم تدخل بعد التقنيات الحديثة على هذه اللعبة، التي تشهد إقبالاً يسترعي الإنتباه في هذه الأيام، لكثرة المفلسين وأعداد الحالمين بتحقيق الثراء، بأيسر الطرق التي يسمح بها القانون والأعراف الاجتماعية السائدة بالرغم من النظرة المريبة تجاهها، شأنهم شأن الفارس الحالم «دون كيشوت»، الذي أراد تغيير العالم ونواميس الحياة عن طريق الوهم والحلم معاً. والحق يُقال فإن الوهم قد أعاد إلى «دون كيشوت» توازنه النفسي المفقود، أمام مرارة الواقع وشظف العيش.‏

اليانصيب بصوره المختلفة، يعدّ من أبرز العادات الموروثة، التي وصلتنا منذ أيام الامبراطورية الرومانية، حيث كان القياصرة ومنهم «نيرون» الطاغية، يوزّع ويشرف بنفسه على اليانصيب. وفي رواية نقلها المؤرخ «سانترس» وردت في المجلد /58/ من مجلة «الهلال» أن «نيرون» أعدّ لأصدقائه يوماً «يانصيباً» من هذا القبيل، جعل جوائزه كلها من عجائز الجواري ذوات العاهات بين خرساء وعمياء، أو فاقدة للأطراف...‏

ولم يُعرف اليانصيب في عصر الامبراطورية العربية، ولا في العصور الوسطى بأوروبا. حتى إذا كان القرن الخامس عشر عاد إلى الظهور في إيطاليا، ثم انتشر منها إلى أن عمَّ أنحاء الغرب، وامتد منها إلى جميع أنحاء الشرق.‏

أما اليانصيب في سورية فقد عرف لأول مرة، بموجب المرسوم رقم /4038/ المؤرخ في 2 تموز عام /1935/، وكان ثمن البطاقة، يومذاك، ليرة سورية واحدة. أما الجائزة الكبرى فكانت /5000/ ليرة سورية.‏

وأشير هنا إلى قصة طريفة ذات مغزى عن اليانصيب، كتبها أنطون تشيكوف «1860-1904م»، الذي يعدّ بامتياز من كبار أدباء روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومن أنبغ أساتذة فن القصة القصيرة ذات الأبعاد الإنسانية والنفسية والسلوكية.‏

حملت هذه القصة الشائقة اسم «ورقة يانصيب»، وتدور حول المشاعر والأحلام والنوازع الدفينة، التي راودت «إيفان ديمتري» وزوجته «مارثا» عندما قال الزوج لزوجته بأنها ربحت الجائزة الكبرى وقدرها خمسة وسبعون ألف روبل، ووضع الجريدة التي أعلنت النتائج بجانبه، دون أن يتابع القراءة..‏

لقد عذبا ذاتهما خلال سنوات بالأمل بثروة مقبلة، وقد وجدا في عذاب انتظار الربح متعة وإثارة...‏

وراح الزوج يحلم برحلة سياحية إلى خارج روسيا، كذلك خطر بباله تجديد مفروشات المنزل، فضلاً عن شراء ضيعة تطل على غابة باسقة الأشجار، من أجل الاستجمام واللهو البرئ مع ولديه. أما الزوجة فقد انتهابتها أحاسيس مختلفة.. وأبدت رغبتها بالقيام برحلة سياحية. ثم تذكَْر الزوج المذهول أن زوجته الدميمة، سوف تحتكر المبلغ لوحدها، وستغدق على أهلها وأقاربها بآلاف الروبلات. بينما هو لن يحصل منها على أكثر من مئة روبل في أحسن الأحول، وبقية المبلغ ستخفيه في خزانتها، بعد أن تحكم إغلاق نوافذ المنزل والباب الخارجي بصورة محكمة... لكيلا تتعرض للسرقة.‏

ونظر الزوج إلى زوجته نظرة عدائية، وهي بدورها نظرت إليه نظرات مشحونة بالكراهية والاحتقار، فقد كانت تحلم بدورها مثلما يحلم هو. وقدكان لديها أفكارها الخاصة المتعلقة بالثراء المفاجئ الذي غير مجرى حياتها. وقد كانت تعي تماماً حقيقة أحلام زوجها الماكرة. وكانت تعلم علم اليقين أنه سيكون أول من يغتصب مالها، وربما اتخذ خليلة له...‏

وبعد أن استيقظا من أحلام اليقظة الذهبية، أعلن الزوج وبصوت عالٍ، بعد أن أمعن النظر في الجريدة، أن مجموعة أرقام ورقة اليانصيب العائدة لزوجته، تخالف الورق الرابحة برقم واحد يقع على اليسار... أي أنها خاسرة لا قيمة لها!‏

وهنا شعرا أن غرفتهما قد أظلمت، وأن السقف يتحرك نحوهما ليسحقهما، وأن الحياة صعبة، وأن الطعام الذي تناولوه كريه المذاق. راح الزوج يبدي تذمره وسخطه على إهمال الزوجة لواجباتها المنزلية، المتعلقة بتنظيف الغرف من بقايا الخبز الجاف، وحسك السمك، وهذا ما دفعه إلى الخروج من المنزل قائلاً: والله لأشنقن نفسي على أول شجرة أصادفها، اللعنة عليَّ، وعلى الذي يبني الأحلام والخيالات على حساب غيره.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية