تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


روايات تتشح السمرة الأفريقية..

ثقافة
الثلاثاء 10-12-2013
لميس علي

في روايتها الثانية «بستان الأرواح الضائعة» الصادرة حديثاً عن دار (سايمن وشويستر).. لا تبتعد الروائية البريطانية- الصومالية الأصل نديفة محمد عن عادة تحريك الأحداث رجوعاً إلى أرض الجذور مقديشو.. أو أي جزء آخر من القارة السمراء.

في هذا العمل تدور حياة الشخصيات الثلاث الأساسية (كوثر الخمسينية، فلسان الجندية الشابة، ديكو ابنة التاسعة) على بقعة أرض تتشح السواد الأفريقي. وليست هي المرة الأولى التي يبحث فيها قلم نديفة «نظيفة» بذات الرقعة الجغرافية.. إذ كان عملها الأول «صبي المامبا السوداء» الذي أكسبها نجاحاً روائياً أوصلها إلى تسجيل اسمها ضمن اللائحة الطويلة لجائزة أورانج.. بالإضافة إلى وروده على لائحة الكتّاب الشباب الواعدين البريطانيين أيار (2013).. وكانت نالت عن العمل ذاته جائزة بيتي تراسك.‏

يُعيد الإصدار الحديث ل(نديفة)، وكذا الأول، التذكير بواقع تحياه تلك القارة.. لتشكّل مع بعض من الأسماء العربية مثل (أمير تاج السر ورانيا المأمون) خليطاً يحمل السمات المميزة والنابضة بحال العيش الكائن هناك.‏

نقطة تمايز تسجل فارقاً ما بين النَفَس الروائي للصومالية نديفة، وما بين النَفَس الروائي للسودانيين «تاج السر والمأمون».. فهل حالة البعد عن الجذور، لطالما عاشت وكبرت في بريطانيا بعيداً عن موطنها الأصلي، تدفع للتنقيب عوداً إلى الماضي كما فعلت في «صبي المامبا السوداء».. بينما يتقصّى الآخران وقائع حياة معيشية.. يفصّلان في فرد لوحتهما الروائية وكما لو أنها فسيفسائية المشهد.‏

في روايتها ترصد نديفة رحلة بطلها، المشابه لوالدها ولكل صومالي ترك بلاده أثناء الاستعمار.. تتابع ذكريات والدها التي تفيض في أحاديث بينهما يخبرها خلالها كيف وصل إلى بريطانيا واستقر فيها. وتمتزج استعادة ذكريات الأب مع قصة الصومالي محمود ماتان الذي كان آخر رجل تمّ إعدامه في بريطانيا قبل أن تُلغى هذه العقوبة هناك.. وكان صديقاً لوالدها.. واعترف القانون بعد خمسين عاماً من إعدامه أنه شُنق ظلماً.‏

يمثل والد الروائية مع صديقه ماتان جيلاً من الصوماليين اضطرتهم الحياة وقساوتها إلى الرحيل والبحث عن إمكانيات جديدة وفّرها البلد المستعمر.‏

على هذا النحو من اقتفاء تاريخ حياة الوالد تعود الروائية للسير خلف تاريخ بلد بحاله.. تسافر إلى الصومال «هيرجيسيا» مسقط رأسها، وجيبوتي وأرتيريا.. تدرس تاريخ المنطقة.‏

عملها أشبه بحالة تنقيب في تاريخ بلادها.. لديها يختصر تاريخ الفرد تاريخ الصومال.. ويظل يرتبط به. يعرّج قلمها من حرب ضد الاستعمار إلى الحرب مع أثيوبيا.. إلى هزيمة الجيش الصومالي في الأوغادين التي أوصلت البلد إلى الانهيار وتشرّد أبنائه.. ويلتقط من ضمن التفاصيل التي يصوّرها مرحلة العيش في عدن بما اشتملت عليه من امتهان سرقة أو أعمال أخرى وضيعة.. ينام بطلها (جاما) مع صديقيه (عبدان وشيدان) في العراء ويأكلون أي شيء تطوله اليد.. حيث تمور الحياة بالكثير من الأحداث التي علقت في الذهن..‏

هل تُذكّر يوميات (جاما) بيوميات بطل آخر حاكه قلم الروائية السودانية رانيا المأمون هذه المرة..؟‏

تغوص المأمون بواقع يائس ومرّ تحياه شخصياتها.. لاسيما «جمال» وصديقه «إبراهومه».. الشخصيتان الموسومتان بصفة (ابن الشمس).. أشباه أحياء.. أو لعلهم أشباه أموات. في أحد أحاديثه يقر إبراهومه معرّفاً واقع حالهم: (.. نحن أبناء الشمس، الشارع.. أبناء اللاأحد).. بجملته هذه يختصر مطلق حياتهم.. فلا انتماء لهم سوى إلى الشارع.. إلى عالم يغّلفه الفقر والعوز.‏

تتابع المأمون دقائق حيوات شخصياتها.. وتمتلك تلك القدرة على خلق لوحة تنطق بكل المشاهدات التي حفظتها عيناها عن مدينة (ودمدني).. المكان الذي يبدو المحرّك الأبرز لمنطق الأحداث.. شبكة لانهائية.. نبع أحداث نابض بحيوات نماذج بشرية شديدة الغنى الإنساني.‏

إغراق الروائية بمحليتها وبمنطق سرد لشدة قربه من الواقع تحسبه يكتسي الخيال بتفانين جمالية.. يُحيل الذاكرة إلى منطقة لعب يخوض فيها الروائي السوداني أمير تاج السر. من أبرز أعماله، التي تتلون بألوان بيئة محلية تهجس بعوالم (الشرق الأفريقي)، روايته «إيبولا 76».. لكن ومع أنه يتلاقى والمأمون بنقطة الإغراق بالمحلية.. إلا أنها لديه محلية مشبعة بغناها الأفريقي المتنوّع.. فالتنوّع سمة أساسية حرّكها الروائي، طوال عمله، ووظّفها إلى أقصى الممكن.. ليعكس غنى المكان.. وصولاً إلى حدود التقاط عوالم غرائبية تحمل الدهشة بإتقان.‏

محلية المأمون تتسع مقتصرةً على حدود بلد عربي.. ولدى تاج السر تتسع مشتملة على حدود قارة بكاملها.. لها طعم السواد الأعظم من أفريقيا.‏

روائيون كتبوا بألوان قارتهم السمراء.. نقلوا الواقع.. لكن ليس النقل الجاف.. الخالي من بريق حياة.. إنما النابض بوقع حياة ورعشتها وفيض متعة متأتية من القدرة على رسم صورة تعتمد أساس ما يمكن أن نطلق عليه تسمية واقعية سحرية خاصة بالقارة السمراء.‏

وإن كان أقربهم إلى هذا التوصيف هو «تاج السر».. بسردياته الواقعية المتشربة سحرية من نوع لا يضغط حدود الواقع إنما يزيد من اتساعها.. بإضفاء هوامش من خيال تبقى تُحسب على «الممكن» أكثر بكثير من حسبانها على «السحري».‏

بالعموم.. سحرهم.. يتبدّى بأساليب استعرضوا عبرها واقع مجتمعاتهم.. لا تغالي بالانجرار خلف زخارف الخيال واللامعقول.. إنما وبكل بساطة تعرضه بطرائق تجعله أكثر قبولاً لدى المتلقي.. لأنها لا تقدّمه نافراً.. وكلمة «نافر» تنسحب هنا وصولاً إلى معنى «المبالغات التخييلية»، من ضمن الذي تعنيه.‏

واقعهم سحري.. وكل السحر فيه لأنه قادر على جعل القارئ يتجرّع تفاصيل حكاياهم.. يقبلها.. ويقتنع بها.. مهما كانت شديدة البوح الواقعي الموجع.‏

في أدب الثلاثة: (تاج السر، المأمون، محمد) نوع من تكاملية مشهدية روائية مشبعة بأحداث تنبت من جذر واقعي.. لها أن تتفرّع.. وتتشعب بإكسائها صيغا فنية مهما حاولت الإبهار بسحر تفانينها تبقى تعود إلى أصل واقعي.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية