|
معاً على الطريق تدور في المنزل.. تغير مكانك.. وأحياناً ترشف القهوة والشاي معاً وأنت تسال نفسك (ماذا يجري)؟ قد لا تكون صور شهداء مطار الطبقة في ذهنك.. وربما لا تتسرب إليك صورة أطفال اللاذقية الذين سلقوا بالزيت ولا جسر دير الزور أو مذبحة – البغيلية – لا تكونان في ذاكرة صباحك الممطر.. مع ذلك أنت قلق وحزين.. تتمنى لو تغلق النوافذ وتجلس في العتمة بعيداً عن صوت المطر وبعيداً عن براعم الربيع التي تمد عطرها من وراء بتلات ملونة.. لعلك تذكرت الربيع الذي يسمونه (الربيع العربي؟) الذي كبر وصار عمره ما يقارب السنوات الستة.. ربما كلمة الربيع حملتك إلى ربيع العرب الدموي لأن كلمة الربيع مشتركة.. مع أن لكل منهما معنى مختلفاً.. فالربيع العربي المزعوم لم يجلب لنا سوى القتل والدمار والمرتزقة وتخريب الروح والعقل والبنيان.. بينما الربيع الحقيقي.. ربيع الخصب والحياة والازدهار وعيد الجلاء حيث طردنا المستعمر الفرنسي عن أرض سورية المقدسة. فهل كلمة الربيع هي التي أحزنتك؟ أم هو المطر الذي يهطل بغزارة جعلك تستعيد رائحة بيتك القديم الذي كنت تسكنه وكان يدلف فوق رأس الأطفال وهم نيام؟ كنت تركض سريعاً كي لا يستيقظوا فتغطيهم (بالفيلد العسكري الثقيل) كان المطر مزعجاً والنوافذ ترتجف ودمشق العامرة بالأضواء والقصور تسهر في المقاهي الزجاجية الملونة.. لم تكن تتحسر. ولم تكن تشعر بالغبن. فأنت جئت من آخر الجزيرة.. من وراء دجلة والفرات إلى العاصمة متطوعاً في الجيش العربي السوري.. لم تكن تفكر بالثروة ولا بالجاه.. كنت تفكر في الوطن وبأولادك.. على اعتبار أن الوطن هم الأولاد.. والأولاد هم الوطن.. مع ذلك لم تستطع أن تسكن بيتاً لا يدلف في الشتاء ولا يضجّ بالهجير صيفاً.. كنت سعيداً ممتلئاً بالأمل والحب.. تشعر أن دمشق جزء منك.. وأنت جزء من حاراتها وقصورها ومساكنها المخالفة.. وكان يكفي أن تنزل إلى الحميدية لتشتري للأولاد الثياب والبرازق لتشعر أنك أغنى الناس وأنك لا تحسد أحداً.. فلماذا الآن تشعر بالقلق والحزن وقد صار لك بيتاً جديداً لا يدلف ولا تهزه العاصفة.. ولم تعد بحاجة لتغطي الأولاد من الدلف الذي ينزل في عيونهم الجميلة.. لقد كبر الأولاد.. وصاروا شباناً في الجيش.. أخذوا مكانك وحملوا عنك الفيلد العسكري.. فانعم أنت بالهدوء والاستقرار.أو تعلم لعبة التواصل على الفيسبوك.. اخترع أصدقاء وهميين واكتب ما يحلو لك فالزمن صار هكذا.. تستطيع أن تكتب الشعر.. وتقدر أن تصير قاصاً وستأتيك (اللايكات) فلماذا لا تشغل وقتك إلا بالماضي.. ذاك الماضي الذي يبتعد كل يوم إلى أن تنساه.؟ يبدو أن النسيان لا يقترب منك هذه الأيام.. وأعتقد أن بيتك القديم الذي كان يدلف كان أكثر دفئاً وأماناً من هذا البيت الحديث.. لهذا تضع صوره على صفحات ذاكرتك وتتذكر حديقته البرية المليئة بالشوك وبشجرة الأجاص الوحيدة حيث يأتي الجيران لشرب الشاي في ظلها. الآن لا ظلّ ولا شاي.. الجيران غرباء وبيتك غريب.. وأنت مهجر بعيد عن الفرات وعن حقول القمح والقطن ولا تدري إن كان شجر الخابور قد أورق أم لا ولا تعرف إن كان بقي – شرادق على الخابور أم لا؟ كل ما تعرفه هذا الحنين الجارف إلى البلد وإلى دمشق وزحمتها الجميلة وإلى مسبّحة أبو جاسم وعجقة سوق الحميدية.صحيح هنا سورية أيضاً فأنت في طرطوس أو اللاذقية ولكن للأمكنة الأولى نكهة خاصة تشبه أول دفتر نكتب عليه وأول رسالة حب تأتينا.. غير أنه على المرء أن يحاول التأقلم ويتمسك بالأمل والحياة. مقهورون كلنا وقلقون , نعم.وننتظر نهايات هذا الألم.. ولكن لا نخلط الشاي بالقهوة.. بل نخلط الأيام بالأحلام ونحاول صنع شيء للمستقبل.. فهذه البلد بلدنا.. وهذه الأحزان لنا.. نتقاسمها كرغيف الخبز لنطعم الذاكرة حتى لا تغيب ولا تنسى ما يجري وما فعله الأوغاد بنا فنحن لنا تاريخنا العريق ووطننا العظيم وعرباناً ذبحونا.. ولكن سنقوم من المذبحة وسنحمل رؤوسنا ونسير نحو الله كي ينتقم لنا من الذين عاثوا في أرواحنا فساداً وقتلاً . لذلك دع عنك القلق.الله يسمع صوت المظلومين.. اشرب القهوة الآن.. المطر ينزل.. يغسل الأرض.. ويروي قبور الشهداء ليبرعم الياسمين وشقائق النعمان وتخضّر الذاكرة لأننا لن ننسى.لن ننسى. |
|