تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


شمشون عصري

رسم بالكلمات
الأثنين 12-3-2012
مالك عجيب

مناسبة يمكن أن أسميها طريفة جعلتني أكتشف أن الإنسان قد يكون أسير معاناة ما، يخالها ثانوية فلا يدرك مدى تأثيرها على مسار حياته. لم أتوصل لهذا الاكتشاف من خلال مروري بتجربة معاناة تقليدية من قبيل مرض عضال أو فقد حبيب أو حتى زواج فاشل مثلا .

بل بسبب تجربة مختلفة أقل أهمية بكثير، بدأت أيام فتوتي الأولى حيث كنت- ولأسباب جلّها مادي وبعضها غير ذلك- أواجه مشكلة مزمنة استفحلت حتى غدت أشبه بالعقدة، تتعلق بالأحذية.. الوطنية منها تحديداً، ومؤداها أنني غالباً ما كنت أجد نفسي مضطراً إما لوراثة أحذية أشقائي التي يخلفونها حين يتدبرون غيرها بما يناسب ذوقهم، بطرق لا أعلمها، أو لانتعال الأحذية التي يشتريها أبي من مجمع الأمويين الاستهلاكي بما يناسب ذوقه .. وميزانيته طبعاً. في كلتا الحالتين، ومع كل حذاء جديد كنت أقع ضحية معاناة جديدة، تبدأ بعدم تناسب مقاسه مع مقاس قدميّ- المحيّر- والقروح التقليدية في مؤخر القدم، ولا تنتهي بالخجل والحرج من مظهر الحذاء والروائح الناجمة عن انتعاله، وما إلى ذلك مما لا يخفى على معظم أبناء جيلي، كنت أتعايش مع مظاهر المعاناة المختلفة كقدر لا مفرّ منه، كالكثير غيره من مشاكل الحياة اليومية.‏

ولأن دوام الحال من المحال، فقد جاء اليوم الذي تحطم فيه الطوطم على يد أخي العائد من لبنان حاملا ً لنا هدايا كان نصيبي منها حذاء جلدي إيطالي اشتراه من سوق (البالة) الشهير في بيروت. ومع أول مشوار به، أذهلني بمزاياه الخرافية- قياساً إلى مفاهيمي عن الأحذية ومفاهيم كل من أبي وإدارة قسم الأحذية في مجمع الأمويين والشركة العامة لصناعة الجلود. اكتشفت به– بل معه – طعماً جديداً للحياة، ومعنىً آخر لعبارة (واثق الخطوة).‏

في تلك الأثناء، حدث يوماً أن تدخلت مدافعاً عن بنت الجيران صفاء ضد اثنين من الزعران كانا يتحرشان بها أثناء خروجها من المدرسة، وانخرطت معهما في مشاجرة غير متكافئة، بشهامة و شجاعة لم أعهدهما في نفسي يوماً، وبغض النظر عن النتيجة الميدانية للمعركة، فقد أثمرت نتيجة أخرى غير منتظرة تمثلت بولادة علاقة حب حقيقية بيني وبين الفتاة، منحت حياتي روحاً جديدة ًبحق، فتحسن مستواي الدراسي بشكل ملحوظ كما تطور أدائي في منافسات كرة القدم في الحي والمدرسة، والتحقت أيضاً بمعهد لتعليم الموسيقا.‏

خلال فترة وجيزة تغيرت شخصيتي كثيراً، وكان بمقدوري أن ألمس دلائل هذا التغير واضحة في ارتقاء مكانتي بين الرفاق. طبعاً لم أتعب نفسي آنذاك بالبحث عن تفسير آخر لتغيري غير سحر الحب، بدا سبباً مقنعاً جداً وإن انتابتني بعض الهواجس إزاءه أحياناً.‏

ثم تحولت الهواجس إلى شكوك عندما تعرضت شخصيتي الجديدة لاختبار آخر شبيه بذاك الذي عمّد ولادتها، حين شهدت مشاجرة دامية لأحد أصدقائي في مواجهة ثلاثة خصوم يشبعونه ضرباً. كان واجبي يقتضي مني الدفاع عن صديقي طبعاً، خصوصاً بوجود صفاء، ولكن لا أدري لماذا خانتني شجاعتي حديثة العهد، ووجدت في رجاء صفاء الصادق بعدم التورط في المشاجرة حبل النجاة الذي كنت أبحث عنه، فمضيت في سبيلي متصنّعاً التذمر.‏

أرّقني الندم وتأنيب الضمير إزاء ردة فعلي التي لم أجد وصفاً لها سوى الجبن، وبحثت جاهداً عن سبب التباين الكبير بين ردتي فعلي تجاه المشاجرتين، كان ثمة فارق وحيد لا ينفك كلما استبعدته- احتراماً لمقام القضية - أن يعود مطلا ً برأسه ساخراً من تجاهلي المتعمد له.‏

أملا ً في التخلص من تأنيب الضمير أولا ً ولأهمية التحقق من جوهر الفارق بين التصرفين ثانياً، كان لا بد لي من استبيان الحقيقة، فعزمت على القيام بتجربة جريئة.‏

في اليوم التالي واعدت صديقي على الثأر لموقعة الأمس بعد أن أعددت حقل التجربة ليحاكي ظروف المشاجرة الأولى بإزالة الفارق (المشتبه به)، انتعلت حذائي الإيطالي بدل حذاء الفتوة الذي كنت انتعله بالأمس امتثالا ً لمتطلبات حصة التربية العسكرية. انتظرنا خصومنا في نفس مكان وقوع الحدث الذي أوجب الثأر، كما يقتضي العرف، وبعد دقائق قليلة وصل الثلاثة يختالون فخورين بانتصار الأمس، وحسم الأدرينالين المندفع في عروقي المعركة حتى قبل أن تبدأ، لم أنتظر المبادرة من صاحب الثأر، فسبقته مندفعاً نحوهما تحرضني قوة جبارة شعرت لحظتها بمصدرها تماماً.‏

بوغت المساكين بالهجوم الضاري واندحروا أمامنا دون مقاومة تذكر وسط دهشة المتفرجين، ومنهم طبعاً صفاء. كان شعوري بالثقة والانطلاق أوضح وأبلغ من أي تعليل آخر.. إنه الحذاء، عنوان شخصيتي الجديدة. ومنذ ذلك اليوم، تحولت عقدتي إلى هوس صريح بالأحذية احتل رأس قائمة أولوياتي الذي يستحق الإنفاق عليه بسخاء غير محدود.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية