تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


«بين الثقافة والحضارة...»

ثقافة
الجمعة 6-12-2019
ليندا ابراهيم

الثقافة كلمة عريقة في لغتنا، بمعنى صَقْلِ النفس والمنطق والفطنة، ثم استعملت للدلالة على الرقي الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والجماعات.

وكما أنَّ كلمة «ثقافة» عند استعمالها في لغتنا العربية هي كلمة مجازيَّة مأخوذة من تثقيف الرُّمح أو تسويته، فهي في اللغة الإنكليزية مثلاً مجازيَّةٌ أيضاً، وإذا تجاوزنا المعنى اللغوي لكلمة الثقافة وأخذنا المعنى الاصطلاحي الذي أصبحت تأخذه الكلمة في مجالات الأدب والتربية وعلم النفس وعلم الاجتماع العام وعلم الأجناس، فإننا نجد لها العديد من المعاني والتعريفات والتفسيرات التي تختلف في اتساعِ أو ضيقِ معناها من تعريف إلى آخر.‏

ومن هذه التعريفات الشاملة والعامة ما فسَّرها د. عبد الله عبد الدايم، في بعض أبحاثه، من أنها أنماط السلوك المعنوي والمادي العائدة لشعب من الشعوب، وتدخل في ذلك أنماط السلوك الخاصة بالمأكل والمشرب والملبس وسواها من مظاهر الحياة المادية، كما تدخل في أنماط النتاج الفكري والأدبي والفني والعلمي.‏

وجوهر هذا التعريف يثبت بالدلالة على أن ثقافة أي أمة هي التي تحدد أصالتها وتميُّزَها عن أيَّ أمة فوق الأرض، ومن هنا كان الشرطُ الأوَّلُ للثقافة وأصالتها، أو خصوصيَّتها أي تعبيرها عما يميز شعباً عن آخر، هو تصويرها للهُويَّة الخاصَّة بكلِّ أمَّةٍ، ونقلها للعطاء المتفرِد الفذِّ الذي تودُّ أمةٌ من الأمم أن تضيفه إلى تراث الإنسانية، ومن هنا حقَّ القولُ أَنْ لا ثقافة لمن لا أصالة له، ولمن لا يملك من التجارب الفكرية والأدبية والفنية والذاتية الفريدة ما يقدم به رافداً جديداً للجهد الإنساني الشامل.‏

وهكذا يتحدد لنا الآن أن الثقافة بمعناها الواسع تشمل مكانة أنماط السلوك الإنساني مادياً ومعنوياً، كما تشمل العادات والتقاليد والأعراف والقيم والخبرات والاتجاهات والنظم السائدة في المجتمع والمؤسسات الموجودة فيه، فهي تشمل كل ما صنعه الإنسان بيده أو أنتجه بعقله وفكره من علم وفنون وتقنيات ومصنوعات ليحصل على أمنه واستقراره وليحقق حاجاته الجسمية والنفسية والاجتماعية.‏

إنها تشمل الأهداف التي حددها المجتمع لنفسه والقيم التي يدين بها، والوسائل التي يستعملها الناس، واللغة التي يتحدثون بها، والقوانين والتشريعات التي يتعاملون من خلالها في مجتمعاتنا المحلية، والأدوات التي يبتكرها الإنسان ويستخدمها في إنتاج السلع والخدمات التي يحتاجها لإشباع حاجياته الصناعية التي أنتجها والمنشآت التي طورها.. ومن خلال هذه المجهودات الحياتية تتوزع أسباب الحياة، لتصل إلى كل يد عاملة، ولتصل إلى كل عقل يفكر، وهكذا تترابط الحياة البشرية، وتتوثق من خلال ثقافة حرصت على بلورة هذه الأهداف، ورفعتها درجة فوق درجة في بناء متكامل مرحلياً وتكنولوجياً ووسعت الطرق المفتوحة من حوله ليبدأ حياته العملية قوياً راسخاً.‏

ومعنى هذا أن الثقافة تشمل اللغة والعادات والتقاليد والمؤسسات الاجتماعية والمستويات والمفاهيم والأفكار إلى غير ذلك مما نجده في البيئة الاجتماعية من صنع الإنسان. والثقافة في التراث الاجتماعي الذي أخذه جيل حاضر من أجيال سابقة، والذي لا يستطيع الجنس البشري بدونه أن يصبح بشراً.. لأن هذا التراث الاجتماعي هو الذي يميزه عن الحيوان، ويتميز هذا التراث الثقافي عن التراث البيولوجي في أن هذا الأخير يولد الإنسانَ دون ذنب له فيه ولا يستطيع تغييره، أما التراث الاجتماعي فهو الذي يعيش فيه.‏

وفي إطار المعنى الواسع المتقدم للثقافة، كما يذكر عبد المنعم الصاوي، في أحد كتبه التي تعرض فيها لتعريف الثقافة، أن الثقافة ليست هي التعليم، وإن كان التعليم أحد أسسها ووسائلها، كذلك الثقافة ليست هي التربية وإن كانت التربية ذات تأثير عليها، كذلك الثقافة ليست هي العلم، وإن كان العلم كالتعليم والتربية له أثره على الثقافة، كذلك الثقافة ليست هذه العادات والتقاليد، وإن كانت هذه العادات والتقاليد ذات أثر كبير على الثقافة، كذلك الثقافة ليست هي الدين ولا العقيدة ولا المذهب، وإن كان للدين والعقيدة والمذهب أكبر الأثر على الثقافة، «إن المعارف وحدها لا تكوِّنُ الثقافة، كذلك لا تكوِّنُها الانطباعات الوجدانية وحدها، ولا العادات والتقاليد وحدها، ولا القيم الأخلاقية وحدها، وإنما تتكون الثقافة من كل ذلك..».‏

وإذا كانت الحضارة هي المظهر المادي للثقافة، فإن الثقافة هي المظهر العقلي للحضارة. والحضارة تترجم الثقافة إلى شعر وكتابة وإبداع وتصوير ونحت ونقش وبناء وآثار فنية أخرى، فتدل على الثقافة دلالة مادية تبقى على مر الزمن، كذلك فالثقافة تترجم الحضارة المادية إلى مذهب عام في السلوك، يعكس القيم المختلفة في الحياة العقلية والوجدانية والمادية والأخلاقية جميعاً.. فالحضارة والثقافة إذاً متقابلتان متكاملتان متواشجتان.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية