تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


وفاء لنمر

رسم بالكلمات
الأثنين 27/10/2008
سمير أحمد نحيلي

درجة الحرارة تتصاعد بدلع وغنج.. إنها نحو الخمسين مئوية, لا أثر للمشاة في الشوارع بتاتاً.

سيارات معدودة معظم أصحابها من الهاربين قبل نهاية الدوام.‏

أنثى ترتدي قميصاً أبيض اللون وبنطلون جينز, شعرها الأشقر يتدلى بجنون على ميمنة وميسرة العنق, تهرول في الشارع ثم تستريح قليلاً.. تتابع بالخطوة المديدة.‏

غريب طبع هؤلاء الأميركان.. هل هذه آخر تقليعة أو صيحة?.‏

أيعقل أن تمارس رياضة الجري في هذا الجو القاتل!!.‏

ألا تخشى ضربة الشمس هذه الشقراء!!!.‏

فجأة تنعطف نحو باب مفتوح وتخاطب أحدهم, ثم تكرر ذلك من مكان لآخر.‏

لابد أنها تبحث عن شيء ما.. بالطبع! ولابد أنه شيء ثمين..‏

سيارة مسرعة تفرمل بقوة, ويترجل منها ثلاثة من رجال الأمن التابع للمبنى السكني يحدّثونها, وعلى مفترق الطريق يتجه الأربعة كل في اتجاه..‏

-الأمر في غاية الأهمية لم يعد هناك مجال للشك!!.‏

قال سائق السيارة باللغة الإنكليزية.‏

رددت بسرعة( نو.. نو) لا أعرف ما وجه الحقيقة.‏

كاد ينتف شعره.. بدأ بحركات لم أفهم منها شيئاً.‏

رفع كفه عن الأرض بمقدار خمسة وعشرين سنتمتراً, ووضع يديه على أذنيه, وبدأ ينبح كجرو صغير..‏

فهمت طلبه لم أجبه ب (نوبل) تبلدت..‏

لابد أن تأتي الشقراء ونستوضح منها أكثر.‏

وصلت أخيراً إلى مدخل العمارة ملتاعة ملهوفة وعطشى.‏

وأزرار قميصها العلوية مفتوحة, فيبدو ما كان يجب أن يكون خافياً.‏

قالت لم يذهب بعيداً.. أعتقد أنه اختفى في هذا المكان إنه يعرف هذا الطريق جيداً حيث يذهب برفقتي يومياً من هنا إلى السوبر ماركت.‏

عينا الحارس الهندي كومار كادتا تنغرسان في نهديها..‏

منذ سنتين لم تدن منه امرأة بهذا الشكل.. وبهذا القرب, ويرى مايرى.‏

طلبت من كومار أن يتولى عملية الترجمة, لعله يرفع بصره عن جسدها.‏

ضاع هنا في هذا التقاطع‏

راودتني فكرة تفعيل الحديث والمواساة.‏

- مااسم الكلب ياصديقتنا?.‏

- اسمه بادي..‏

-سمعت بهذاالاسم من قبل. نعم, إنه على اسم كلب الرئيس بيل كلنتون, اسمه جميل, نحن العرب نطلق هذا الاسم على الرجال..‏

انفرجت أساريرها لمعرفتي باسم كلب الرئيس.. فتحت كفيها:‏

-( بادي) هادىء ومتزن وودود.. مرح وعطوف ومسالم, حنون النظرات, وسيم الطلعة, ناصع البياض, ناعم الفراء.‏

قاطعتها: هذا لايهم.. يجب أن نكثف السؤال والبحث عن (بادي) قبل أن يصبح قطعاً تُسلق في أحد قدور الفيليبينيين يأكلون أي نوع من الكلاب.. فما بالكم بكلب مثل بادي صاحب هذه الصفات الرائعة, والمدلل الذي تصل مصاريفه الشهرية أضعاف مرتب عامل فيليبيني. من المؤكد أنهم أمسكوا به (سيكثرون المرق ويطبخونه في قدر كبيرة).‏

أطرقت رأسي متصنعاً شيئاً من الحزن, ثم رفعته, كان بصرها متجهاً نحوي وكأنها توجه الإدانة والشجب ضدي..‏

تسلل الخوف إلى صدري, إذا لم يعثروا على بادي قد يقيمون دعوى قضائية.. احترت ماذا أفعل.‏

لكن على العكس! أسندت رأسها إلى صدري, وعانقتني باكية..‏

- أعوذ بالله من غضب الله! لوجاء رجال الحسبة لأقاموا الحد علي بالجلد.‏

رائحتها أذهبت عني كل الرعب. كدت أتقيأ, كانت كدجاجة نافقة في منتهى النتانة من شدة التعرق والجري والعطش.‏

لكن بادي لم يعد.‏

هانت لوعتها بعض الشيء بفضل المؤازرة.. استغرب صاحب العمل وجود امرأة بين العمال وبهذا الشكل.‏

قال بلهجة متهكمة: إذا ضاع لها كلب, فهناك مئات الكلاب تقتل فلتتخير ما شاءت من الكلاب.. كلهاعلى حسابها كلباً كلباً, ولها مطلق الحرية..‏

احتار بصرها بين سيارته الفارهة وساعته الثمينة جداً.‏

زمّت فمها بامتعاض شديد, وحولت وجهها عنه..‏

يئست من عودة بادي.. تحركت باتجاه السيارة ثم عادت لتقول: سأوزع إعلانات في الشوارع المجاورة, وأخصص هدية لمن يرشدني إلى بادي لو سمحت, ساعدني ياصديقي!.‏

قالت وهي تضغط على يدي بقوة, ما اسمك أيها الصديق?‏

كتبت له اسماً ثلاثياً: نمر ولد بتار ولد فد غم.‏

أعجبها اسمي نمر.. إنه بسيط.. استغربت سر هذه التسمية.‏

- لاداعي للاستغراب, ياصديقتي روزا, فقبيلتنا تفتخر بهذه الأسماء, وهذه عادتنا: التكني بأسماء مرعبة قوية لنزرع المهابة في نفوس الأعداء عند النزال, هذه عادة قديمة تتوارثها القبائل.‏

- لن أنساك يانمر ولن أنسى موقفك هذا سواء عاد بادي أم لم يعد, ولوحت بيدها مودعة.‏

بعد مدة ناولني الحارس ظرفاً في غاية الروعة, فقلت في قرارة نفسي: فُرجت, ربما تكون شهادة حسن سيرة وسلوك موقعة من وزارة العدل الأميركية, يالها من رسالة أنيقة حقاً!.‏

صديقي العزيز نمر:‏

لن أنساك لقد وقفت بجانبي الشهر الماضي وقفة رائعة في تلك المصيبة التي ألمت بأفراد أسرتي.‏

لن أنسى تلك الثواني التي ألقيت فيها رأسي على صدرك.‏

واتفقت مع أفراد أسرتي على تكريمك لقاء صداقتك, فاشترينا كلباً صغيراً رائعاً وأطلقنا عليه اسم نمر, لك حبي وتقديري.‏

صديقتك الدكتورة روز.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية