|
فضاءات ثقافية لازال العالم منشغلاً بأسرار موت هؤلاء وغيرهم والأجدى أن يسأل كيف عاشوا؟ فى مذكرات ماركيز «عشت لأروي» حياة حافلة بالتجارب والإبداع الذي لم يتوقف لحظة وفي هذه المذكرات المحتفية بالحياة والإبداع والصدق يمكن أن نعرف كيف عاش هذا المبدع الأسطورة وندرك أن أسئلة الحياة أهم من أسئلة الموت، فماركيز حينما اكتشف الكلمة المبهمة الإلهام فرض على نفسه في ليلة الاكتشاف التزاماً حربياً إما أن يكتب رواية وإما أن يموت، وتأكد أنه غير قادر على العيش دون كتابة, فهي له كالتنفس ومن هذه اللحظة أطلق العنان لقلمه ليفرغ كل المادة الخام التي في أعماقه, ففوجئ بشلال من الورق يخرج من الآله الكاتبة. حينما اضطرته الظروف أن يعمل صحفياً كان رئيس التحرير يطالبه بعمل ريبورتاج بطول مترين أو متر ونصف من الورق. وعند اختراع الكمبيوتر ظل الحنين لهذا القطع من الورق يعاوده وهو في أوج النضج. في اللحظة الأولى التي جلس إلى أوراقه مقرراً أن يكتب أول رواية اجتاحه اندفاع بلا كابح فقد معه الإحساس بالوقت واكتشف أن الروايات لا تبدأ مثلما يريد مؤلفها وإنما مثلما تريد هي وبالتصميم الخلاق على أن يشق طريقه بالمناكب قرأ كل ما هو جدير بالقراءة, ولازم كبار المثقفين والمعلمين وأساتذة الكتابة الكبار وصار المقهى هو البيت الذي لا يملكه, يلتقي فيه بأصدقائه ويبدأ حديث الفنون والآداب والمجد مع الذين يعيشون في الموسوعات على حد تعبيره, وفي هذه الفترة قرأ كل ما عثر عليه من أعمال جيل الضياع بالإسبانية مع اهتمام خاص بفوكنر الذي كان يجرفه بإلحاح شفرة حلاقة دموية بسبب خوفه من ألا يكون على المدى البعيد أكثر من بلاغي ماكر, وكان يستشهد بأقوال أساتذته في زاويته الصحفية «الزرافة» ويعتبر ذلك رياضة إيقاعية من أجل تعلم الكتابة. في عمله الصحفي تحدى ماركيز اللغة الاصطفائية عسيرة الهضم التي كانت تتأصل في الصحافة الكولومبية آنذاك وعانى وعانت الصحف التي عمل فيها من شح الموارد المالية. وكان مضطراً أحياناً هو وزملاؤه أن يوزعوا الصحف التي يعملون بها ولا يشتريها أحد فى البارات مقابل مقادير من الكحول. لم يكسب ماركيز مالاً إلا من الآله الكاتبة، ورغم ذلك فإن أول حقوق مؤلف حصل عليها وأتاحت له العيش من قصصه ورواياته دفعت له وهو في الأربعين وبضع سنوات وبعد أن نشر أربعة كتب بعوائد زهيدة, وما قبل ذلك كانت حياته مضطربة على الدوام. كان كتاب ألف ليلة وليلة هو أكثر الكتب تأثيراً فيه وتعلم منه أنه لا يجب علينا أن نقرأ إلا الكتب التي تجبرنا على إعادة قراءتها. كان أيضاً مغرماً بالموسيقا ويتمنى أن يصير موسيقياً يتنقل من مهرجان شعبي إلى آخر مزوداً بأكورديون وبصوت جيد ويرى أن هذه أفضل الطرق لقص حكاية وكان يقول: إذا كانت أمي تخلت عن البيانو لكي تنجب أبناء وعلق أبي الكمان ليتمكن من إعالتنا فإن العدل يقتضي أن يستشعر أحد أبنائهم تلك السوابق الطيبة ليموت جوعاً من أجل الموسيقا، استغرق سنوات ليتعلم الاستماع إلى الموسيقا والتمييز بين الجيد منها والرديء ورغم غرامه بالكلاسيكيات، والألوان الهامة للموسيقا كانت الموسيقا الشعبية تملأ قلبه بالسعادة ويقول: إنها أشبه بالعثور على الشعر مذاباً في حساء الحياة اليومية. أيضاً جرب كتابة الشعر لكنه كان يختبئ خلف اسم مستعار لأنه لا يرى فيما كتبه قيمة شعرية كبرى إنما مجرد تمارين حرفية دون إلهام ودون تطلعات، كان مصراً أن يكون كبيراً فى الرواية ويرى أن الحظ حالفه باكتشاف من هم مكتشفون بالفعل ليتعلم منهم خاصة أصحاب الظل الأسطوري الذين تتميز بهم مراحل الكتابة المختلفة . على المقهى جلس مع بابلو نيرودا وتعلم منه أن الشعر لابد وأن يكون سلاحاً سياسياً وعندما سطع نجم ماركيز كان دائم السخرية من أن على هامش النجاح الأدبي الذى حققه تقابله مشاكل أخرى أكثر دنيوية ودعابة فقد صار أصدقاؤه الغافلون يوقفونه في الشارع ليطلبوا منه النقود ولم يصدقوا أنه لا يتلقى سنتاً واحداً مقابل النشر. وكانت أمه حتى بعد أن صار كاتباً تعيد إليه رسائله لها وقد صححت ما فيها من أخطاء إملائية.. جزء من أسطورة ماركيز صنعها توحده المطلق مع ثقافة الكاريبي وأنه لم يكن يقرأ للمتعة فقط, وإنما ككاتب حرفي وبدافع فضول لا يرتوي لديه لمعرفة كيف كتبت هذه الكتب التي يقرأها.. كان يقرأ الكتب بصورة سوية وبالمقلوب ويخضعها لنوع من نزع الأحشاء الجراحي بغية التوغل في أشد أسرار بنائها خفية والمكتبة كانت أداة العمل التي لا يستغني عنها مطلقاً. |
|