|
ثقافة أفق يجب ان يقوم على الفهم المتبادل والاحترام المتبادل لكي تتحقق مقولة الشيخ الاكبر في رؤيته الرفيعة للانسان.
سوف نستغرب ان هذا الرجل التي استغرقت رحلة حياته 78 سنة بالتقويم الهجري و 75 سنة بالتقويم الميلادي (560هـ -638هـ) والذي لم يتوقف في مكان بل كان دائم الترحال هو اغزر مؤلف في تاريخ الفكر الاسلامي على الاطلاق, وقد لا نبالغ اذا قلنا في تاريخ الفكر البشري فقد احصى له الباحث عثمان يحيى 994 كتابا ورسالة..!!? هذا ما قاله الباحث والكاتب ( محمد قجة) رئيس جمعية العاديات السورية ( حلب) في محاضرته القيمة والثرية بطرحها المعرفي التي القاها في العاشر من شهر ايار بعاديات جبلة وهي بعنوان ( ابن عربي والعولمة) حيث تضمنت الحديث عن الرجل في نطاق عصره وعن الاساس الفلسفي لمذهبه في التصوف ووحدة الوجود ومن ثم ربط الموضوع بالشق المعاصر وهو كيف يمكن ان ننظر الى محي الدين بن عربي بمنظارنا نحن وبمنظار الاستشراق المعاصر ثم بمنظار الفكر العولمي الذي يحاول ان يسيطر على الناس.. ونحن بصدد ذكر مقتطفات مما جاء في هذه المحاضرة الشيقة والشائكة بآن معا فضلا الى حضور لافت لجمهور امتع الاجواء بحوار ثقافي غني بأسئلته وطروحاته. في بداية المحاضرة يتساءل الاستاذ قجة: لماذا نستدعي ابن عربي من وراء القرون من قبل ثمانية قرون كي نتحدث عنه الآن والازمات الراهنة تعصف بنا, وهل يعتبر هذا نوعا من فضول الكلام ان نهتم به .. !? عصر ابن عربي وحياته ولد محمد بن علي بن عربي في مدينة مرسيه في الاندلس لأسرة عربية عريقة ينتهي نسبها الى حاتم الطائي بالذات. وانتقل مع اسرته الى اشبيلية وهو في عمر الثامنة ودرس هناك القرآن والفقه والحديث على يد أحد تلاميذ ( ابن حزم) وكانت نشأته الاولى نشأة فتى مترف في أسرة ثرية ولكن هذه الصورة تبدلت اثر زواجه من ( مريم بنت عبد الرحمن الباجي) وبدأت تتراءى له في احلامه عذابات جهنم وفي تلك الفترة توفي والده وتجمعت لديه الاسباب ليسلك طريق التصوف, حيث تتلمذ على يد بعض اعلام عصره من امثال: ابي العباس العرياني وابي عبد الله مجاهد وابي الحجاج الشبربلي. وغيرهم وتعرف الى عجوز تدعى فاطمة بنت المثنى القرطبية فلزمها واخذ عنها رياضات النفس الصوفية. كانت بلاد الاندلس وقتها تحت حكم الموحدين الذين اسسوا دولة مترامية الاطراف عاصمتها مراكش حيث كانت تغلي بالصراعات السياسية ضد القوى الاوروبية الآتية من الشمال مهددة الوجود العربي في الاندلس وفي الوقت نفسه كان ساحة للحركات الفكرية المستنيرة وللحوار الفكري بين التيارات المختلفة وقد عرف البلاط الموحدي اعلاما كبارا في الفكر من امثال ابن طفيل وابن رشد وابن زهر وسواهم وشهد ابن عربي جثمان ابن رشد محمولاً على بعير ومعه حمل من كتبه . غادر اشبيلية في جولةعلى مدن الاندلس والمغرب حيث التقى الشيخ بن الحسن الاشبيلي المعروف بأبي مدين وهو المتصوف المشهور في التاريخ الاسلامي واثر هذا الرجل تأثيرا كبيرا فيه وكان ابن عربي في الثانية والثلاثين من عمره حينما اتجه الى المشرق لأداء فريضة الحج, ولم يعد في يومها الى الأندلس ولا الى المغرب . ولكنه قبل الوصول الى مكة توقف لمدة سنتين في القاهرة وكانت تحت حكم الملك العادل الايوبي شقيق صلاح الدين وهناك قال: بوحدة الوجود فتألب عليه الفقهاء ولكن الملك العادل كان متسامحا فلم يلحق اذى بان عربي ولم يسمح لهم بأن يضطهدوه او ينفوه من ا لقاهرة ولكنه بطبيعة الحال غادر الى مكة واقام فيها ثلاث سنوات تعرف خلالها الى امام الحرم الملكي المعروف بأبي خاشة وكان اعجميا في اصفهان حيث تزوج ابنته( نظام) وكتب فيها ديوانه ( ترجمان الاشواق) وهو شعر رقيق في الغزل يوحي بمعان صوفية رائعة من خلال صور الغزل الحسي الجميل وقد قام ابن عربي برحلة طويلة زار خلالها مدن المشرق وكانت البلاد تحت حكم الاسرة الايوبية وكان الصليبيون لا يزالون يحتلون اجزاء من اراضي المسلمين في بلاد الشام وفي الموصل التقى الشيخ المتصوف ( علي بن جامع) ولبس على يديه الخرقة الصوفية.. وفي حلب ايام الظاهر غازي بن صلاح الدين الايوبي لقي عنده ترحيبا رغم ضغوط الفقهاء المتشددين ومطالبتهم بطرده أو معاقبته واستمرت اقامته في حلب حتى عام 620 هـ ومن ثم غادرها الى دمشق التي لزمها حتى وفاته عام 638 هـ (1240م) ودفن هناك . مؤلفاته وفكره الصوفي يقول الباحث قجة : يتربع الشيخ محي الدين بن عربي على قمة الهرم الفكري في الحضارة الاسلامية علما وغزارة وشمول معارف حيث ترك مئات المؤلفات والكتب والرسائل في مجالات التفسير والحديث وعلم الكلام والشعر ولكن التصوف غلب على ابرز مؤلفاته بحيث بلغ القمة في هذا المجال وقد احصى له الباحث عثمان يحيى 994 مؤلفا بين كتاب ورسالة نشره في كتاب نال به اطروحة الدكتوراة في السوربون باشراف المستشرق الفرنسي (مسسينيون). طبعا كثيرا من هذه الكتب لم تصلنا فقد احصى بروكلمان في كتابه الهام عن التراث العربي نحو 250 كتاباً لا تزال موجودة بين مخطوط ومطبوع ولكن سنتوقف عند اهم اربعة عناوين وهي : 1- كتاب ( الفتوحات المكية) وهو اعظم كتبه , الفه خلال 40 سنة, بداية من وجوده في مكة وانتهاء بوجوده في دمشق, ويقع في اربعة آلاف صفحة, وهو جامع لكل آرائه في مؤلفاته السابقة ومادته العلمية ضخمة جدا وعميقة وغامضة في رموزها ويقسم الى ستة اقسام موزعة على خمسمائة وستين فصلا تسبقها مقدمة ضخمة وقد حقق هذا الكتاب الباحث عثمان يحيى في 24 مجلداً وبحدود عشرة آلاف كلمة وصدر منه حتى الآن 14 مجلدا وتوقف الصدور على ما يبدو لخلافات مالية بعد وفاة عثمان يحيى الا انه توجد نية جادة في طهران لاستكمال هذا الكتاب . 2- كتاب ( خصوص الحكم ) يعتبره النقاد اعمق كتبه واكثرها تركيزا وتلخيصا لآرائه الصوفية وهو عرض لرأي الشيخ ابن عربي في وحدة الوجود وخلاصة معارفه الواسعة في القرآن والحديث وعلم الكلام والفلسفة بمذاهبها الافلاطونية الحديثة والرواقية والمشائية واخوان الصفا والاشاعرة ومن سبقه من المتصوفين وقد جاء هذا الكتاب في مجلد واحد وحققه الباحث المصري ابو العلا عفيفي . 3- الكتاب الثالث بالاهمية ( ذخائر الاعلاق) في شرح ديوان (ترجمان الاشواق) فقد اضطر ابن عربي كما يقول في مقدمة الديوان ان يقوم بشرحه في مدينة حلب خلال ثلاث سنوات واعاد الكتابة والشرح وانتهى منه عام 614ه¯ اي استغرق العمل سبع سنوات وبمساعدة من تلاميذه المقربين كما ذكر. 4-ديوان (الشيخ الاكبر ) : وهو مجموعة قصائد شعرية لابن عربي في غير ترجمان الاشواق , والقسم الاخير من الكتاب يضم حوالي خمسين موشحاً له حيث كان عالما ضليعا بالموسيقا وقد جمعت هذا الكتاب وحققته منذ ثلاث سنوات . يمثل محي الدين بن عربي المذهب الافلاطوني الحديث بمعنى النزعة المثالية المتصوفة الاخلاقية ويقوم فكره الصوفي على قواعد بارزة نلخصها بما يلي: القول بوحدة الوجود والشك الصوفي والحيرة والزهد الصوفي والعلاقة بين الحق و الخلق والذات الالهية والله والانسان ويرى ان العلوم على ثلاث منازل وهي : منزلة علم العقل, ومنزلة علم الاحوال ومنزلة علم الاسرار وهو فوق طور العقل وهو اشرف العلوم لانه محيط بكل المعلومات ويخص الانبياء والاولياء. اثره في الفكر العالمي يقول الاستاذ قجة: لم ينقسم الباحثون حول مفكر كما انقسموا حول ابن عربي بين مؤيدين ومعارضين, والمؤيدون متحمسون والمعارضون شديدو العداوة ينقلون الرجل الى دائرة الكفر والزندقة. يعتبر محي الدين بن عربي مثالا للفكرالانساني الذي ترك بصماته بعيدا عبر الاجيال وعبر القارات وكان فكره مرآة للنقاء الانساني في سموه وتسامحه ورفعته : يقول في ترجمان الاشواق : لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وايماني واذا نحن حاولنا تتبع الاثر الذي تركه في الفكر الانساني لكان ذلك بحاجة الى وقت وجهد اكبر من المتاح ونكتفي ببعض الامثلة : يرى المستشرق الاسباني خوان ريبيرا ان ابن عربي قد اثر بشكل واضح في فلسفة ( لوليو) الذي اتكأ في كثير من الاشياء عليه والمستشرق الاسباني (اسين بلاثيوس) يرى ان ابن عربي قد ترك اثرا كبيرا في كتابات دانتي في كتابه(الكوميديا الالهية) ويتابعه في ذلك كثيرون واما المستشرق الياباني ( ايزوتسو) فيرى ان (التاويه )وتطورها قد تأثرت بفكرة ابن عربي في المجالات الفلسفية والصوفية والمعرفية والتوحيد والحق المطلق والارادة وايضا تأثر سبينوزا بموضوع وحدة الوجود عند ابن عربي . ويختم الباحث قجة محاضرته بالقول: ان الشيخ الاكبر محي الدين ابن عربي بحياته ورحلاته ومؤلفاته يمثل الاطار الحضاري الواسع للبحر المتوسط وانطلاقا من هذه النقطة بالذات نأتي على ما يسمى العولمة الان التي هي محاولة فرض فكر عالمي بالقوة على الاخر . وهذا الطموح العولمي يتبناه الفكر الامريكي الذي نوجز بعبارة اطلقها الرئيس جورج دبليو بوش وهي اما ان تكون معنا .. واما انك ارهابي, اذا الاساس الفكري الذي تبنى عليه هذه العولمة هو فكر ظالم وفيه نفي مطلق للاخر و يبحث عن عد و مفترض .. ونعود الى الشيخ الاكبر محي الدين بن عربي فنجد انه ينطلق من رؤية عامة شاملة لانسان رؤية تحترم الانسان بغض النظر عن عرقه ولونه ومذهبه فالانسان لديه يجمع العالم في شخصه فالعالم انسان كبير والانسان عالم مختصر . |
|