|
ملحق ثقافي
فجاء تأثره القوي بتلك المؤلّفات والدراسات على نمطين: أولهما يتمثّل بمتابعته الدائمة والفورية لكل ما نشر بالعربيّة في هذا العلم الجديد، ويتضح ذلك من خلال قراءاته ومراجعاته وعروض الكتب، التي قدّمها تحديداً في فصلية «الاجتهاد» البيروتية المتخصصة بقضايا الدين والمجتمع والتجديد العربي الاسلامي (وواكبها منذ أعدادها الاولى إلى أن توقفت عن الصدور بعد أربعة عشر عاماً) وفي مجلة « الفكر العربي» الصادرة عن «معهد الانماء العربي»، وثانيهما من خلال ما أصدره من أعمال ودراسات في هذا الميدان، وأبرزها كتابه:«الاسلام وملحمة الخلق والاسطورة» (2991)، وكتاب «العنف والمقدس والجنس: دراسة في الميثولوجيا الاسلامية» (5991)، وكتاب «من الطين الى الحجر: قراءة في سفر الخلود» (7991). فإذا أخذنا - على سبيل المثال - بحث الراحل ( تركي علي الربيعو) الموسوم بعنوان «نحو تأسيس إناسة لدراسة المجتمع البدوي: قبيلة طيء نموذجاً» والمنشور في فصلية «الاجتهاد»(1)، نجد أنه سار فيه مقتفياً نهج وانتقادات ريتشارد تابر للانتربولوجيين والمؤرخين بشأن مفهوم القبيلة ودورها، حيث يرى أن تجربة الأنتربولوجيين في تعريف القبيلة لاطائل منها، بل هي «محاولة عقيمة ومضجرة في آنٍ معاً» (2) أما تركي الربيعو فينتقد من جانبه مايسميه«السلف الإناسي /الانتربولوجي»، الذي ظلّ عالقاً بأوحال الإدارة الاستعمارية، كما أظهر جيرار لكرك على نحو دقيق في كتابه «الأنتربولوجيا والاستعمار»(3). ويستشهد الربيعو في بحثه المشار اليه أعلاه مرات عديده بالإناسي البريطاني المعروف إيفنز بريتشارد، الذي يقول:«لقد كتب الكثير عن بدو الجزيرة العربية قبل الإسلام، لكنّ أسئلة كثيرة حول بنيتهم المجتمعية مازالت عملياً بلا أجوبة، نظراً لفقدان الأدلة التاريخية. إن بوسع المرء أن يستعين على ذلك بدراسة البنية المجتمعية للبدو في أيامنا هذه. إذ إنهم من عدة أوجه يعيشون إلى هذا الحد أو ذاك نوع الحياة نفسها التي كان يعيشها أجدادهم الاولون»(4). كما يؤيد الربيعو بقوة رؤية بريتشارد القائلة بأنه يجب على الإناسي (الانتربولوجي) أن يعمل على ثلاث مراحل: المرحلة الاولى، بوصفه اتنولوجياً، عليه أن يقيم في وسط الشعب الذي يقوم بدراسته، ويعيش وفقاً لنمط معيشته، ويتعلم لغته، والتفكير بناء على مفاهيمه، وأن يتصرف على ضوء قيمه؛ المرحلة الثانية، حيث عليه أن يتخطى الحدود الأدبية والانطباعية، وألا يكتفي بمراقبة ووصف الحياة المجتمعية في مجتمع بدائي، بل عليه أن يسعى إلى معرفة النسق البنياني المستتر والتشكيلات التي يتشكل بها والتي من شأنها أن تساعده، عند تبلورها، على إدراك المجموع بوصفه تضافراً لتجريدات تقوم بينها علاقات متبادلة؛ أما المرحلة الثالثة فينصرف فيها الإناسي إلى مقارنة الخطوط الكبرى لبنية المجتمع الذي درسه مع خطوط بنى مجتمعات أخرى.(5) وتطبيقاً لقواعد بريتشارد في بحث المجتمعات البدوية يحاول تركي الربيعو أن يتجاوز «بحدود الإمكان» - كمايقول - الدراسات الانطباعية والأدبية، التي طالت المجتمع البدوي، وأن يوجه الاهتمام إلى معرفة النسق البنياني المستتر، بالأخص النسق السياسي، مستنداً بذلك إلى عناصر عديدة، يأتي في مقدمتها مايلي (6): «أولاً: كون الباحث واحداً من أبناء هذه القبيلة - قبيلة طي- نشأ فيها، ولا يزال يعيش بين ظهرانيها، وتحركه دوافع إنسانية وحضارية هدفها إذكاء فهم جديد حول القبيلة بوجه عام». ثانياً: اعتماد الباحث على مفاهيم إناسية جديدة من شأنها أن تشكّل الركيزة الأساسية للمنهج الجديد في دراسة ظاهرة البداوة، والتي من دونها لايمكن القيام ببحث إناسي. وقد أمل الربيعو عبر اختياره لقبيلة طيء نموذجاً لدراسته، أو بالأصح لتطبيق المفهومات والتحليلات الإناسية الجديدة أن يتجاوز أموراً سائدة منها: 1- تجاوز معظم الدراسات التي تربط البداوة بالصحراء ، وتنظر إلى البداوة على أنها نسق إيكولوجي، وإلى السمات الشخصية للبدوي على أنها انعكاس مباشر لطبيعة الصحراء. فالبداوة (تبعاً لتلك الدراسات) ترتبط بالسكن الصحراوي المترحل واقتصاد رعي الماشية، وأن نظام البداوة يشكل إحدى حالات تكيف الإنسان مع الطبيعة الصحراوية القاسية، وأنها نمط معيشة خاص يتلاءم مع البيئة الصحراوية، وإلى الدين على أنه انعكاس لحياة الصحراء. حيث تقول إحدى الدراسات ضمن هذا الفهم: إن فكرة الجنة بما فيها من أنهر واخضرار وظلال هي حلم الصحراء وتحقيق مالايتحقق في هذه الحياة. وبذلك يمكننا أن نستنتج - تبعاً لتلك الدراسة - أن إيمان البدوي باليوم الآخر والجنة، وسعيه إليها يجب أن يكونا أكثر التصاقاً بواقع البادية وأعمق عفوية وأصالة من إيمان وسعي الذين يتمتعون بهذه الحياة. إن الجنّة هي صرخة الصحراء، ومن يمكن أن يكون أكثر إحساساً بهذه الصرخة من الأعماق «اللّه أكبر» من ذلك البدوي الذي يواجه جبروت الصحراء وحيداً مستوحداً لاأفق يحد حياته وتجواله؟ وفي ذهن من يكون اللّه في سلطته اللامتناهية أقرب إلى تفكير هذا البدوي الذي يجل شيخ قبيلته حتى العبادة.(7) فقبيلة طيء مستقرة في سهل رسوبي من الجزيرة السورية، تخترقه الأنهار، وتصل نسبة أمطاره السنوية إلى 008 مم. وقد استقرت هذه القبيلة في أرضها الخصبة الحالية منذ زمن بعيد، يعيده بعضهم إلى عهد الفتوحات الإسلامية عندما قام القائد الإسلامي عياض بن غنم، عام 91 للهجرة بفتح المنطقة، بينما تعيده مصادر أخرى إلى قرون خلت، بداية القرن السابع عشر، حيث هاجرت القبيلة من نجد إلى الجزيرة على أثر صراع بينها وبين القبائل الأخرى، ومن هنا فهذه القبيلة المنبسطة على سهل واسع لاترتبط بالصحراء. وظل نسقها القبلي فاعلاً حتى بعد ارتباطها بالزراعة، وذلك في أواسط خمسينيات القرن العشرين. 2- تجاوز الإشكالية السائدة في حقل الدراسات المتصلة بالبداوة، والتي تدرسها انطلاقاً من المتغير النفطيء الكبير، حيث تقسم حياة القبيلة إلى مرحلة ماقبل النفط، ومرحلة مابعد النفط. فقبيلة طيء لا يمكن دراستها من خلال هذا المنظور، إذ لاترتبط بالنفط ونتائجه العامة، ولايلعب هذا المتغير أي دور في حياتها (8). وإذا كان تركي الربيعو قد اعتمد على منهج إيفنز برتشارد في شروط عمل الإناسي (الانتربولوجي )، كما جاءت في كتاب الأخير الموسوم بـ«الإناسة المجتمعية»، فإنه اقتفى خطوات جورج بالاندييه في محاولته تطبيق «الإناسة السياسية» كعلم جديد وتخصص متأخر للإناسة المجتمعية وكطريقة لاكتشاف القرابة السياسية (9) في «النسق السياسي» لقبيلة طيء (عشيرة البوعاصي تحديداً). ( 01) حيث يستفيض في إعطاء أبعاد سياسية لعلاقات القرابة القائمة بين «أفخاذ»العشيرة الواحدة، مؤكداً وجهة نظر بالاندييه القائلة بأن حياة القبيلة السياسية تقوم على التحالفات و المجابهات.و في سياق هذه التحالفات الاجتماعية و المصلحية و القرابية و الجغرافية يرى الربيعو أنه على صعيد قبيلة طيء يمكن التمييز بين مستويين من الأحلاف، أحلاف على مستوى القبيلة، و أخرى على مستوى العشائر المكونة للقبيلة الأم. حيث يعطي الكاتب أمثلة تؤكد وجهة نظره في هذا المجال.بالإضافة إلى وصفه للبنية الاجتماعية لعشيرته ( البو عاصي ) - وهي من لواحق طيء - بالبنية السياسية، حيث ارتبطت بقبيلة طيء عبر حلف عريق و قديم، يعود إلى بداية القرن الثامن عشر.فعشيرة «البو عاصي» هي من قبيلة «البقارة» المعروفة في الفرات و الجزيرة، و لأسباب ثأرية اضطرت للاحتماء بقبيلة «طيء». وفي معرض شرحه و تحليله لبنية هذه العشيرة، يرجح الربيعو بحس الباحث النقدي والموضوعي أن «الميثولوجيا الشعبية تلعب دوراً كبيراً في سلاسل النسب، و ذلك من خلال انتساب العشيرة أو القبيلة إلى قريش أو إلى واحد من صحابتها المقدسين، الذي تحرص عليه أغلب العشائر و القبائل، بالإضافة إلى مبدأ التحدر من جدّ واحد».(11) وقد حرص الربيعو طوال بحثه على «تأصيله» و إعطائه ذات المفهومات و التفسيرات المستمّدة من قاموس بالاندييه في «الانتربولوجيا السياسّية». حيث ظهر ذلك جلياً في وصفه «للحقل السياسي للعشيرة»، ( كما هو عند بالاندييه ) والقائل بأن كل وحدة مكانية تقوم عليها وحدة سياسية، و تظهر هذه الوحدة السياسية للفخذ بصورة واضحة.فالعلاقات السياسية تعبّر عن نفسها بألفاظ القرابة، كما يقول بالاندييه.و هذه الحياة السياسية الموزعة بدقة و المخفية، لا تنكشف من خلال المؤسسات السياسية، بل من خلال المواقف الدينامية المختلفة، و التي تعبّر عن نفسها من خلال علاقات التنافس و التسلّط، والتحالف والتجابه.(21 ) وختاماً يمكن القول: صحيح أن الباحث تركي الربيعو سار على ذات المنهج والخطوات، واستخدم المفهومات والمصطلحات التي أنشأها الإناسيون المشار إليهم، بل توصل إلى خلاصات مماثلة ومتطابقة معهم، إلا أنه حاول الاجتهاد في إطار هذا الحقل المعرفي الجديد والشائك، فنجح في نشر و تسويق فكر ورؤى هؤلاء الإناسيون من جهة، وفي جذب عدد لا بأس به من الباحثين والاجتماعيين العرب إلى علم يحتاج إلى خبرات طويلة و بحوث ميدانية معمقة ومتأنية وإبداعية من جهة أخرى. «الحــــــواشـــــــــــــــــــي» (1) تركي علي الربيعو، نحو تأسيس إناسة لدراسة المجتمع البدوي: قبيلة طيء نموذجاً - مجلة «الاجتهاد»، العدد السابع عشر، السنة الرابعة، خريف العام 1992/1413هـ، ص 143 -182. (2) ريتشارد تابر، الانتربولوجيون والمؤرخون والقبيلة: حول القبيلة ونشوء الدولة في المشرق العربي - مجلة «الاجتهاد»، العدد السابق نفسه. (3) جيرار لكرك، الأنتربولوجيا والاستعمار، ترجمة جورج كتورة ( بيروت: معهد الإنماء العربي، كتاب الفكر العربي، 1982 ). (4) تركي علي الربيعو المصدر نفسه - استناداً إلى كتاب إيفنز برتشارد، الإناسة المجتمعية وديانة البدائيين في نظريات الإناسيين ( بيروت: دار الحداثة، 1986 )، ص 145. (5) إيفنز برتشارد، المصدر نفسه، ص75. (6) الربيعو، المصدر نفسه، ص158. (7) انظر: حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر (بحث استطلاعي اجتماعي) ( بيروت): مركز دراسات الوحدة العربية، 1984)، ص66-71. (8) الربيعو، المصدر نفسه، ص161. (9) الربيعو، المصدر نفسه.. استناداً إلى جورج بالاندييه، الأنتربولوجيا السياسية، ترجمة جورج أبي صالح ( بيروت: معهد الإنماء القومي، 1986). (10) الربيعو، المصدر نفسه، ص162. (11) الربيعو، المصدر نفسه، ص 166-167. (*) باحث وكاتب من سورية |
|