تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


لوحــــــةهـــــــوى

ملحق ثقافي
الثلاثاء 16/1/2007
قصة: بسام الطعان

هرباً من زحام المرارات, أخذتني المســـــــــافات إلى وادٍ أخضر يرتدي نهرا يموج بخضرة مياه صافية, ويتفرع إلى سواقٍ صغيرة تروي عطش الأرض, وهناك عند ضفته اللينة, شـــــــكوته وحدتي وأحلامي التي تصـــادق المستحيل دائما, لكنه لم يســتمع إليّ وظل يجري ويجري.

عسكرت فيّ وحدة معشــــقة بتأملات تتغلب على انكســــــاراتها, ففردت أجنحة تعبي وشــــجني الداكن, وبحثـــــت عند الحقيقة وعند الخيال, عن وصل أو وصال, أو مسرّة, أو لعبة تبعد أوجاع الروح. ذاكرتي كانت تثرثر مع الفراغ وأنا أتهشم في واجهات الحســــرة حيناً, وحيناً أقرأ رسائل شوق لا أدري لمن, فجأة ســــــــمعت دندنة أغنية حزينة تأتي من خلف شـــــــــجرة وارفة, أغنية التفت كلماتها وألحانها من حولي فترنمت بها, تملكني شــــــوق لمعرفة مصــــدر الصوت, فنهضت بهدوء واقتربت كالمسحور, بينما أحاسيس متيمة بالخدر اللولبي تتلاطم في داخلي. وآه من المفاجأة.. رأيت فتاة تسترخي فوق بساط أخضــــر, تفرد ضــــفائرها الطويلة, ومن حولها مدىً من ندى, فتاة حبلى بالمحبة, مفعمة بالســــــــحر ولحن الناي, لها نقاء ثلج فوق قمة جبل, ونكهة وطعم ولذة البرتقال والعنب والكرز, زرعــت نظراتي الجائعة فيها وهي تدندن وتهز رأسها يميناً ويساراً, فتفجر نبع الإعجاب كاســحاً كل كياني وأنا أرى فيها جمال الياســـــــــمين, وطيبة الأم, وكبرياءً مغمساً بالشــهد, بدا لي الوادي جنة على الأرض لأنني وجدت بعد طول انتظار أنيساً أو وليفاً, وبدأ نبضي يركض في المدى كالنهر.‏

لا أعرف إن كنت نائماً وأحلم, أم كنت واقفاً عند الأصيل بالقرب من شـــجرة تتمدد تحتها بطة ممتلئة على شــــــــكل فتاة رائعة تشبه (كريمة) ولكن من (كريمة) هذه التي أتحــــدث عنها؟ هل هي الفتاة الأولى في الغياب؟ أم الفتاة الأولى الحاضرة في كل الأوقات؟ في واحدة من أكثر لحظات العــــمر عذوبة, تمنيت لو أضمها بين أقصى الصــــدر وأعلى ومنتصف القلب, و بعد لأي اقتربـــت منها بخطوات هامسة على نعومة العشب, ألقيت الســـــــلام وأنا تائه بين دروب الحب والإعجــاب, فالتفتت إليّ باندهاش, توقفت عن الغناء, وبعد نظرات حلوة من عينيها السوداوين, ابتســــــمت كقمر في ليلة صـــــــيفية, ومثل مهرة نهضت, وتركت نســــــيمات الهواء تغازل خصلات شعرها, وقلبي يغازل كل ما فيها. اجتاحتني حسرة الظمآن حين يرى ماءً بارداً, شــــــــــعرت بأنها أعادت إليّ الطفولة, ودون وعي مددت يدي نحـــــــوها, وكم كانت فرحـــــــــتي كبيرة حينما صــــافحتني وهي تزنرني بنظرات مليئة بالمعاني. ـ كل الأشياء الجميلة تأتي لوحدها ودون ميعاد. قالت بصــــــوت أشبه إلى الهمس حين قلت: ـ ياااااااه.. كيف كانت الدنيا قبل ربع ساعة وكيف أصبحت الآن؟‏

ظل وجهــــــــــها شعاعاً يملأ الوادي, أجبرتني على أن أذيبها في عمري ليتجدد وليزداد عنفواناً وجمالاً, فتجرأت أكثر وقــــــرأت لها أول رسائل الحب, وحين سقتني من حنانها قلت: ـ كل مساحات قلبي صارت بلادك. ـ هل تصدق أنني كنت انتظرك مع العلم أنني لم أرك من قبل؟ أذهلتني كلماتها, فتمددت في منعطفات جســدها, ومن شدة بهجتي لم يستطع المكان أن يحتويني: ـ ما رأيك لو نرســم أنت وأنا على أعشاب هذا الوادي وبكل ألوان الحب لوحة لم ترسم في دفاتر العشاق من قبل. قرأت في عينيّ كل الصــدق وكل الحب وكل النجوى, فعادت إلى مكانها تحت الشجرة, جلست ودعتني للجلوس إلى جانبها, شـــعرت بأن الدنيا بدأت تفتح لها اتساع ذراعيها, فأرسـلت يدها الطرية ببطء إلى كفي الخصيب وهيأت الألوان. مع الدفء المتولد من الأصابع العشرة, تغيّر سلوك الدم فينا كلياً, وتغيرت نظرتنا للحياة, وشيئاً فشيئاً صارت الشــــــــجرة غطاءً من غار, وصار العشب سريراً وثيراً ومليئاً بالعـــطر المميز, والأحلام الكثيرة, وهسيس الكلام, وزقزقات العصـافير, وألحان الناي, وندى المساء, وعبق الياسمين, ودفء الهوى الذي لا يشبه الهوى.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية