|
ملحق ثقافي
و السؤال المركزي في ذلك الجدل هو ما هي الطريقة التي يوظف فيها الأدب السردي التاريخ و يعيد إنتاجه؟ و منذ ثلاث سنوات أشرت في إحدى دراساتي إلى حقيقة بدأت تتأكد لي مع مرور الزمن، و هي أن الناس أصبحوا يعبرون عن إشكالية في علاقتهم مع الأدب الروائي. تتلخص هذه الإشكالية في نزوع جديد من قبل القارئ إلى البحث عن تلك الحدود الغامضة بين الروائي و التاريخي، بين المتخيل و الواقعي، إنه بحث جديد عن الواقعي و الحقيقي في الخطاب السردي المعاصر. أدى ذلك النزوع المتزايد في السنوات الأخيرة إلى بروز واحدة من أكثر القضايا النقدية إثارة للجدل و هي السرقات الأدبية.
و لعل مصطلح السرقة الأدبية يعبر في أيامنا هذه عن تلك النقطة الغامضة التي تتداخل عندها و تتشابك و تلتبس الحدود بين الروائي و التاريخي أو التخييلي و الواقعي. لقد برزت هذه القضية بشكل كبير بحيث يمكن اعتبارها القضية الأدبية الأولى للعام 2006. لقد اتهم بالسرقة الأدبية عدد كبير من الأدباء في العالم. آخر هؤلاء من يعتبر أحد أكبر الروائيين في العالم و هو إيان ماكيوان الذي اتهم مؤخراً بالسرقة من مذكرات الحرب العالمية الأولى لمؤلفتها لوسيلا أندروس.
لقد اتهم أيضاً بالسرقة كل من زيدي سميث، الروائية التي تعتبر الآن ظاهرة في بريطانيا و التي حازت عدداً قياسياً من الجوائز و الروائي المعروف جوناثان كو و ب د جيمس و باريل بانبردج و غراهام سويفت. أما الروائي دان براون فقد أمضى معظم العام 2006 أمام المحاكم يدافع ضد تهمة السرقة الأدبية. و منذ سنتين اتهم حائز جائزة بوكر للرواية يان مارتل بالسرقة الأدبية، على الرغم من أن الكاتب قد أشار إلى مصدر إقتباسه من الكاتب البرازيلي موسير سكليار. هل يعبر هذا حقاً عن انتشار ظاهرة السرقة و الانتحال في الأدب المعاصر، و هل فعلاً كل أولئك الكتاب سارقون و منتحلون؟ ام أن المشكلة تكمن في أن معنى مصطلح السرقة الأدبية أصبح غامضاً و غير محدد؟ تقليدياً يعني هذا المصطلح أن كاتباً ما يقتبس مقاطع من نص آخر دون الإشارة إلى ذلك. و لكن يبدو أن مفهوم السرقة الأدبية أصبح يعاني الآن من مرونة كبيرة و غموض واضح في رصد الحدود بين النص الأدبي و بين ما خارجه من نصوص أخرى. و بالطبع لا ألمح هنا إلى أن عمل الكاتب لا يجب أن يكون محمياً بصرامة من قبل قوانين حقوق الملكية الفكرية. لكني أرى المشكلة في ذلك التعقيد الذي يحيط عملية تشكل الأفكار و إعادة صياغتها و مقاربتها في عمل أدبي ما .
هل تخضع الأفكار إلى قوانين حقوق الملكية الفكرية، و هل يستطيع كاتب ما إحتكار فكرة؟ هل يستطيع كاتب ما إحتكار حبكة أو أسلوب سردي؟ ربما. و لكن ماذا عن حالة الروائي إيان ماكيوان الذي اتهم بالسرقة رغم أنه أشار إلى مصادر مواده المقتبسة من مذكرات لوسيلا أندروس؟ ماذا كان بوسعه أن يفعل أكثر من هذا ليتلافى تهمة السرقة. لقد عبر الكثير من النقاد و الكتاب عن قلقهم تجاه هذه القضية. إن طغيان مصطلح السرقة الأدبية على الحياة الأدبية المعاصرة بهذا الشكل يجعلنا نتساءل عن عمل كبار المبدعين في تاريخ الإنسانية. هل كان شكسبير أكبر سارق أدبي في تاريخ الأدب؟ و ماذا عن برتولت بريخت الذي كانت معظم مسرحياته إعادة صياغة درامية لقصص و حكايات مكتوبة قبله. و ماذا عن إنجازات الحداثة الأوربية في القرن العشرين التي اعتبرت أن توظيف و استخدام عناصر و مواد تنتمي إلى سياقات نصية أخرى و إعادة صياغتها في عمل فني هو من جوهر العملية الإبداعية؟ و يكفي هنا الإشارة إلى ما قاله الفنانان بابلو بيكاسو و ويليام بوروغس في هذا الشأن لنلاحظ كم تغيرت المفاهيم و الحساسية فيما يتعلق بظاهرة السرقة الأدبية. إن فن استخدام مواد أناس آخرين لصياغة عمل فني له تاريخ عريق. الكولاج مثلاً استخدم منذ وقت طويل، خصوصاً في أعمال الكثير من فناني القرن الماضي مثل بابلو بيكاسو و جورج براكس. إنه أسلوب يتم وفقه استخدام و إعادة صياغة مواد و عناصر موجودة في الواقع بحيث يتغير المعنى نتيجة لتغير السياق. الدادائية الإتجاه الفني الذي عبر عن فقدان المعنى في الحضارة التي أنتجت الحرب العالمية الأولى استخدمت أشكالاً خاصة من فن الكولاج. و في أحد بيانات الدادائية السبع، كتب تريستان تزارا “خذ جريدة و مقصاً. اختر من هذه الجريدة مقالاً بالطول الذي ترغب و اصنع منها قصيدتك. القصيدة ستمثلك”. لقد أشار مايكل ميهان إلى أن عملية البحث و جمع المعلومات في عمل الروائي تحقق أفضل فائدة عندما تنسى ثم تعود إلى العالم الروائي كذاكرة. إن هذه العملية تختلف عن عملية قص و اقتطاع أفكار الغير بمقص، بل هي عملية قراءة تحول كل العناصر الخارجية إلى جزء من الوعي و الذاكرة. لكن الذاكرة ذاتها مفهوم عصي على الدراسة و التحديد. إن استخدام مواد من أعمال كتاب آخرين يحدث صدفة، حيث تنسى المراجع الأصلية و تتعرض الذاكرة نفسها للتغيرات. أعمل حالياً في المراحل الأولى من رواية عنوانها “هذه الحمى المدشمرة” و هي حول حياة فيرجينيا وولف. إن وولف تتميز بحياة موثقة أدبياً بشكل نادر بين كتاب القرن العشرين. و رغم الكم الهائل من الوثائق المتعلقة بحياتها، تبقى وولف شخصية غامضة و عصية على التجسيد. و ربما ذلك الغموض هو نتيجة لكثافة الوثائق. كيف إذاً يرسم الروائي الشخصية و هو غارق في بحر من الوثائق و القصص حول حياتها؟ كيف يستطيع الراوي الإرتقاء فوق كل ذلك الكم من أعمال الغير لينتج عمله الخاص المتفرد؟ يبدو أننا في ظل ما يسيطر على الحياة الأدبية المعاصرة من تداخل و انزياح للحدود التي ترسم أفق العملية الإبداعية بحاجة إلى إعادة النظر في الإبداع الروائي و ماهيته. و لعل في محاولتنا الصعبة هذه لإعادة التعريف لجوهر عمل الروائي في عالم متغير و فضفاض الحدود نقدم شيئاً قد يفيد في حماية فن الرواية من الضجيج الثقافي و الإعلامي الذي لا يشك الكثير من كتاب عصرنا أنه يهدد بما تنبأ به البعض من موت الرواية و نهايتها كفن قادر على إنتاج معرفة بالحياة ربما تكون أكثر أصالة مما تنتجه المختبرات العلمية أو ثقافة الصورة التي كلما ازداد حصارها لحياتنا، كلما ازداد ذلك الاغتراب الغامض عن الواقع الذي تنتجه الصورة. فما هو جوهر العملية الإبداعية؟ و هل يمكن طرح هذا السؤال بهذه البساطة فيما يخص الخطاب الروائي في عصر غدت فيه مساحة الأسئلة البسيطة و البديهية ضيقة للغاية؟ ربما كانت الإجابة عصية للوهلة الأولى. لكن أعتقد أننا يجب أن نكون واضحين في الإنطلاق من فكرة جوهرية و هي أن على الروائي أن يقرأ و يقرأ و أن يصغي و يرى و يقارب العالم بكل حواسه و ملكاته بغية إلتقاط ذلك الإيقاع القادر على استدعاء أسلوبيته و خلق معنى نصي، و من ثم إعادة خلق الشعور و المعنى الذي تحمله مواد الواقع و النصوص الأخرى دون الوقوع في مطب إعادة إنتاج تلك المواد ذاتها. كاتبة و روائية أوسترالية. نشرت هذه المقالة في الملحق الثقافي لصحيفة العصر الأوسترالية.يوم6 الجاري. |
|