|
ثقافة
فقد كانت علماً حقيقياً بالنسبة لهم، وهم لا يسعون إلى أن يهينوا باللفظ، بل بالمعنى الذي هو روح الجملة المسمومة.. كانوا يقولون: «الشيطان أبلى ثلاثة أزواج من الأحذية قبل أن يجمعنا.. الدسائس والوشايات والثرثرة والحسد والمشاجرات.. كل ذلك، احتلَّ المقام الأول في هذه الحياة التي كنّا نعيشها جحيماً مع قتلة، لا تفارق الشتيمة أفواههم». إنها «مذكرات من بيت الأموات» لـ «فيودور دوستويفسكي». الأديب الروسي المعروف بتمرّسه على الغوص في أعماق النفس البشرية، وفي إلباسها لشخصياتِ رواياتٍ، تمكّن وبقدرته على ملامسة قلبِ وفكر وروح الإنسان فيها، من أن يكون مبدع الفلسفة الروحيةِ-العالمية. في هذه الرواية، تتصارع الحكايا.. حكايا الشرِّ مع الخير، والحقد مع الحب، والحق مع الباطل، والحقيقة مع الزيف، وسوى ذلك مما لم يكتشفه فقط في الحياة، وإنما أيضاً في بيت الأموات.. الرواية التي كتب فيها سيرته في إحدى معتقلات سيبيريا التي نفي إليها، وما شهده فوثّقه من فظائع وشرور المجرمين فيها.. أيضاً، من شجاعة وحكمة آخرين رأى منهم، الأبرياء والمثقفين ومن قال عنهم: «كان يوجد بينهم رجالٌ قُدَّ طبعهم من فولاذ، أقوياء وشجعان ومتعودون على التحكم في سلوكهم. هؤلاء كان الآخرون يحترمونهم دون قصدٍ منهم، ورغم غيرتهم على سمعتهم، كانوا يحاولون عدم السيطرة على أحد، ولم يكونوا يشتمون أبداً، وكان سلوكهم كلّه مفعماً بالكرامة. كانوا متعقِّلين ومطيعين تقريباً، وليس عن مبدأ أو شعور بالواجب، بل هو وفاقٌ كانوا جميعاً يدركون مزاياه». نعم، هي سيرة ذاتية، ولأديبٍ عاش سنوات وسط أشهر قُطَّاع الطُّرق والقتلة ورؤساءِ العصابات. السجناء، ممن سعى ورغم شعوره بكرههم له، إلى محاولة تغيير سلوكهم وسوء معاملتهم والنظرة التي تجعلهم حذرين من وجوده.. إنه ما جعله يعيش الاغتراب بينهم.. يراقبهم فيكتشف بأن معظمهم: «معظم السجناء كانوا يعتقدون في قرارة نفوسهم، أن من حقِّهم التصرف كما يروق لهم، ومن المؤكد أن المجرم لا تصلحه سجون ولا معتقلات أو أشغال شاقة، فهذه العقوبات لا تستطيع إلا أن توقع به القصاص، وأن تبعد جرائمه عن الناسِ، وهو ما يفاقم لديه الحقد العميق، والعطش إلى الملذات المحرمة والاستهتار الفظيع.. المجرم يكره المجتمع، ويعتبره المذنب، ويرى نفسه بريئاً وعلى حقٍّ دائماً.. إنه سبرُ غور نفوسٍ مستسلمة للضياع والعماء، وإني أجدها مغلقة دون أي ضياء». لاشكَّ أنها تجربة مبدع، مثلما أثرت الظروف السياسية التي كانت سائدة على مجتمعه وواقعه، أثّرت روايته التي كانت سبباً في إلغاء العقاب الجسدي للسجين، ومهما كانت فداحة الجرم الذي ارتكبه.. تجربة، عاشها ولاحظ فيها، طبيعة الإنسانوما في أعماقه من تناقضاتٍ وتخبطاتٍ لا يسيطر عليها العقل أو حتى يعيها، وهو ما عمَّق لديه الأسئلة حول ماهية النفس البشرية. عمّق أيضاً الإجابة، وبطريقةٍ فلسفية: «كنتُ أحاول تخمين مصيري، وأنا في طريقي إلى سيبيريا، وفيما بعد، فقط لما عشت في السجن وقتاً طويلاً كافياً، فهمت تماماً كلّ ما في هذه الحياة من أمور استثنائية وغير متوقعة.. لقد أحسستُ حين وصولي إلى السجن، باشمئزازٍ لا يُقهر.. شيءٌ غريب! الحياة فيه بدت أقل مشقة، مما لم أكن أتصور خلال الطريق وتخميناتي. الأشغال نفسها، لم تبدو لي شاقة للغاية، ولم أخمِّن إلا بعد مدّة طويلة أن صعوبة ومشقة هذه الأعمال، ليست في عسرها واستمرارها، بل لأنها إلزامية، وتؤدّى رهبة لا رغبة». باختصار، هي رواية الأنا العاقلة والاستثنائية.. النفس المبدعة والبصيرة الرائية. رواية الحكمة التي تتعتّق حكايا هي «مذكرات في بيت الأموات». البيتُ الذي نقّب «دوستويفسكي» وبعد كشف الحُجب عنه، في خلفياتِ شخصياته المحمّلة باختلاف الهواجس والانفعالات.. أيضاً، بعد أن عاش في سجنٍ رآه «عالما خاصا جداً، لأنه لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء.. عالم له عاداته، وله زيه، وله قوانينه.. إنه منزلٌ «ميتٌ-حي» معًا، الحياة فيه لا شبيه لها، والأحياء فيه ليس لهم نظراء». عاش في هذا المنزل فأدرك، أن مرارة الحياة وآلامها وقسوتها، قد يكونوا سبيل السائل العاقل، لاكتشافِ ماهية الإنسان وما يعتمل في نفسه من مشاعرٍ قد يُطلقها أو يكبتها.. الإنسان الذي تفرّغ لاكتشاف طباعه وحالاته، ولدراسة تفكيره وتحليل انفعالاته، والذي هو ذاته ذاك الحر الطليق الذي عاد ليكتبه، وبتمرده أو ثقافته أو ديانته.. بفساده أو شروره ووحشيته: «يوجد في كلِّ مكانٍ أشرار، وحتى بين الأشرار هناك خير، ومن يدري؟!.. قد لا يكون هؤلاء الناس أشد شروراً من الأحرار الطلقاء.. إن الانسان لا يستطيع أن يتخلَّى عما يجري في دمه، عمَّا رضعه مع حليب أمه، ولا يكفي أن يعترف المرء بذنبه.. بخطيئته الأصلية.. ذلك قليل، قليل جداً.. ينبغي له أن يجتثّ هذه الخطيئة أيضاً..».. |
|