تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أرجوحة الروح

ملحق ثقافي
20/10/2009
د. صـلاح صـالح

«أن تتحدّث عن غروب الشمس لا يعني أنّك ضدّ شروقها بالضرورة» عبارة علقت في ذهني من إحدى مقالات أدونيس المنشورة في أحد أعداد ملحق الثورة الثقافي أواخر السبعينات.

وقد وضعتها في واجهة الذاكرة قراءتي لـ)أرجوحة النَفَس( التي صدرت بلغات عدّة، بينها العربية، قبل أن تحوز كاتبتها على جائزة نوبل للآداب بفترة قصيرة، وقد ذكر مترجمها إلى العربية )د. وحيد نادر( أن العنوان الذي صدرت به الرواية هو الترجمة الحرفية التي تستدعي إلى الذهن أرجحة الروح على شفير لفظ الإنسان للمتبّقي من آخر أنفاسه، أو أنفاس إنسانيته المهدّدة بكلّ شيء. وما استحضر عبارة أدونيس وقفُ الرواية على سرد ما كان يحدث في معسكرات التجميع التي أنشأها الاتحاد السوفييتي السابق للعمل الإجباري، إبان نهاية الحرب العالمية الثانية )1945- 1950( فما صرخت به الرواية، واستقرّ بكل ما فيه من إيلام في وجدان القارئ، لا يعني أن يكون القارئ ذاته ضد ما كان يمكن أن يكون في ذلك الاتحاد السوفييتي من مختلف الأمور الحسنة التي لم تأت الرواية على أيّ منها. من غير أن يغيب عن الذهن أن الرواية رواية، ولا يجوز مطالبتها بما لم تقله. ولكن الإيمان الذي دمغ أذهان الكثيرين في مرحلة الحرب الباردة بأن معسكرات التجميع لم تكن موجودة، وأنها كانت مجرد دعاية غربية مضادّة، يجعل هذه المقدّمة مسوّغة.‏

أشارت مؤلفة الرواية في تصدير روايتها إلى أن عملها كان مقرّراً أن يصدر باسمها واسم معتقل سابق في تلك المعسكرات، أخذت عنه شهاداته المسرودة كتابةً في ثلاثة دفاتر، بالإضافة إلى شهادات والدتها التي كانت معتقلة أيضاً في الفترة ذاتها، والمكان ذاته، ذلك المكان المبهم الضائع داخل ما سمّته الرواية إحدى بوادي روسيا الشاسعة، لكن الموت أتى على الشريك سارد الشهادات قبل إنجاز الرواية، فخرجت باسم مؤلفتها التي سعت إلى شحن المسرود بكلّ ما تملك من طاقات شعورية وشعرية، ليأتي النص آخر المطاف نصّاً شديد الإتقان على المستوى الأدبي، وقادراً على إحداث ما يفوق الأثر المرجوّ في نفس المتلقّي، بسبب أساسٍ من البراعة الأدبية المختزنة في قلم الكاتبة، على مستوى التلقّي وإحداث الأصداء.‏

ربما كان المسكوت عنه في فكرة إنجاز العمل أكثر لفتاُ للانتباه من المسرود على الصفحات، وهو ذلك الذي يشبه غلس الليل الحالك أثناء محاولة إبراز بشاعة الظلام المرصود لحظة الغروب. إذ يذهب الظن بالقارئ – وكثير من الظن ليس إثماً، بل إن بعض الظن ينتمي إلى محاسن الفِطن حسبما قالت العرب – يذهب الظن إلى أن إبراز السوء الذي انطوت عليه معسكرات العمل الإجباري مجرد تغطية للمساوئ التي سبقتها في محارق المعتقلات النازية، أو المساوئ التي لحقتها، وما زالت تلحقها على أيدي الصهاينة. لقد خلت الرواية من أي ذِكر لأيّ شيء سابق لعملية اقتياد مئات الشباب والكهول من الجالية الألمانية المقيمة في شمال رومانيا، ذكوراً وإناثاً، لإرغامهم على العمل الوحشي في تلك المعسكرات المرعبة التي بدت في الرواية، مثلما كانت قد بدت في وسائل الإعلام الأطلسية، معسكرات للقتل الجماعي، تجويعاً، وإمراضاً، وتجميداً بالبرد، ورمياً بالرصاص، على حدّ سواء، وبدا المجمّعون المعتقلون معتقلين لمجرّد أنهم ألمان قادرون على أداء العمل اليدوي.‏

وعلى أية حال، لا بدّ من التزام الحذر في عملية المتابعة التي قد تنزلق بمن يتابع السياق الآنف إلى جعل معسكرات التجميع السوفييتية جنّة إذا ما قيست بما كان قبلها في المعتقلات النازية، وبما جاء بعدها في ظل مختلف الأنظمة القمعية على امتداد العالم، إذ أشارت الرواية إلى أن المعتقلين المجمّعين، كانوا قد أُبلغوا بموعد تجميعهم وترحيلهم قبل وقت مناسب، وسُمح لهم باصطحاب ما يرونه مناسباً لحياتهم داخل المعسكر، وحصلوا على أجر في العام الخامس والأخير من اعتقالهم. وهنا لا بدّ من التوقّف في سبيل التذكير بما يجب التذكير به بقصد منع اللبس:‏

فمن ذلك ألا يجوز عدّ جريمة ما تسويغاً لحدوث جريمة تالية، حتى لو كانت التالية مجرّد ردّة فعل على السابقة. فما حدث في معتقلات الإبادة النازية لا يجوز عدّه تسويغاً لما حدث لاحقاً في معسكرات العمل الإجباري. والجريمة هي الجريمة، والضحية هي الضحية، والمجرم هو المجرم، أية كانت المزاعم التي يسوقها مرتكبو الجرائم في سياق تسويغ جرائمهم. إن السبل غير الأخلاقية لا يمكن أن تؤدي إلى مرامٍ أخلاقية، والوسائل ذات الطبيعة الإجرامية لا تنتج إلا الإجرام، وغاياتها الأخلاقية المزعومة لا تنزع عنها صفتها الإجرامية.‏

لا شكّ في أن هذه التحفّظات تبتعد بنا مسافة عن عالم الرواية، ولكني وجدت ذكرها ضرورياً للحيلولة دون عدّ )المسكوت عنه( في‏

)أرجوحة النَفَس( تسويغاً لما حدث في جنة الكادحين السابقة من جرائم تشبه ما حدث في ألمانيا النازية من حيث الجوهر، وإن فارقتها من حيث التوجّه وطبيعة الأهداف.‏

المؤلّفة شاعرة، وقد تجلّى الشعر في معظم الأنساق السردية التي تشكّلت منها الرواية، وعلى الرغم مما يفقده الشعر في عملية الترجمة، فإن الترجمة العربية التي أنجزها وحيد نادر ) وهو شاعر أيضاً( استطاعت الحفاظ على تلك الطاقة الشعرية العظيمة على مستويين يبدوان متعارضين في العملية الشعرية، وهما مستويا التدفّق والتكثيف. حيث تميل القصيدة – الحديثة خصوصاً – إلى التكثيف، متخلّية بذلك عن أي مظهر من مظاهر التدفّق الذي عُدّ السمة الأساس للإنشاد الملحمي في رائعتي هوميروس (الإلياذة والأوديسة(. والجمع بين هاتين السمتين (الكثافة والتدفّق( هو الوسم الأبرز لـــــــــ )أرجوحة النفس(. مع الإشارة إلى أن التدفّق من سمات الفن السردي عموماً، والإشارة الموازية إلى ما ذكره لوكاشّ بشأن عدّ الرواية ملحمةً للبرجوازية، من غير أية نية بالذهاب إلى عد النفس الملحمي في هذه الرواية إجراء تطبيقيّاً لمقولة لوكاش، أو محاولة للبرهان على صحّتها .‏

ما نتحدّث عنه بخصوص شعرية الرواية لا يلغي )روائيّتها( أي مختلف الوسائل والجوانب الفنية التي تجعل الرواية رواية، ولا يتّسع هذا المجال للمتابعة التفصيلية في هذا المنحى، ولذلك سأكتفي بالإشارة إلى ما ساقته الرواية بشأن بعض التفاصيل السردية التي منحت هذه الرواية فرادتها الفنّية، كما في حالة استعمال الرفش القصير الذي ينتهي بقبضة لها شكل المثلّث، والفرق بين استعماله واستعمال الرفش ذي الذراع الطويل، سواء استُعمِل الرفشان في تفريغ الأنقاض، أو تفريغ الفحم، والدراسة الذكية المتأنّية لحركة الجسم، والإتيان على مختلف الأوضاع التي يتخذها السارد وهو يستعمل رفشه المفضّل، مع إبراز طرائق تقلّص العضلات وانبساطها أثناء العمل، ومختلف أشكال الزوايا التي تنشأ عند مفاصل الهيكل العظمي، والأمداء المتفاوتة لانفراج أضلاع الزوايا المتشكلة من العظام، وحجم الطاقة المصروف لدى استعمال كلّ من الرفشين.‏

وهناك أيضاً – على سبيل المثال بطبيعة الحال – سرد الطريقة المبتكرة في التخلّص من قمل الجسم الذي يعشش في الثياب، خلافاً لقمل الرأس الذي يعشش في فروة الرأس، حيث تُدفن الثياب في ليالي الصقيع الروسي ضمن حفرة في العراء، ويُترك من الثياب ما هو أدنى من قبضة اليد، وعند الصباح، يتجمّع القمل على الجزء الظاهر من الثياب، متّخذاً شكل زهرة القرنبيط البيضاء، فيزيلونه، ويسحقونه بأحذيتهم، متمنّين لو كانوا يسحقون الروسيين، حسب تعبير الرواية بكل ما في التعبير من عنصرية فجّة، حرصت الرواية على إخفائها، أو إضمارها في معظم الأنساق. لكن معتقلاً مجوّعاً، ومجبَراً على ممارسة أكثر الأعمال إشقاء وإفناء لطبيعة الإنسان، لا أظنه مطالباً بأن يُجهد نفسه في البحث عن الطبيعة النبيلة في أكثر أفعال سجّانيه خسّة ولؤماً، وليس مطالباً أيضاً في أن يحرص على تنقية أمانيه وهواجسه من شوائبها العنصرية. ومن غير أن يغيب عن ذهن القارئ تفريقه الضروري بين ما يُسمّى مقولة الكاتب ومقولة الشخصيات.‏

وهناك أيضاً – على سبيل المثال أيضاً – قضية الإسمنت. الإسمنت ذلك المسحوق الناعم كالغبار، الإسمنت الذي يسمّونه في لبنان )غبرة(، وكان دفن الرأس في الغبار، وإجبار صاحب الرأس المدفون على استنشاق الغبار بدل الهواء من أساليب التعذيب التي استعملها المغول والمماليك. هذا الإسمنت كان يملأ الأجواء الخاضعة لمزاج الصقيع الروسي الرهيب، ولكنه لم يكن يجد طريقه للنفاذ إلى الرئتين في تلك الأجواء الصقيعية، بل كان يتصلّب في الفم، وفي البلعوم، وفي الحلقوم، وفي الرغامى والشعب الرئوية، وفي تجويف الأنف، وتجاويف الجيوب التنفسيّة، وعلى الوجه، واليدين، وعلى الثياب، وعلى الأغطية، إذ كان يختلط بالبخار الجوي الذي تجمّده مخلوطاً بالإسمنت درجات الحرارة المتدنّية، ليتحول هواء الشهيق، إلى صبّة إسمنت.‏

لقد كان قتل الإنسان، وخصوصاً قتله على المستوى الروحي، هو الهاجس العميق الذي سعت الرواية إلى إبراز نتائجه الخطيرة، لقد خرج المعتقلون من معسكرات التجميع، وعادوا إلى بلدانهم وأهاليهم، لكن شروخاً عميقة حادّة انتابت صلب كينونتهم الإنسانية، بسبب تلك الفترة السوداء التي اشتغلت عليها الرواية، فلم يستطع أحد من أولئك استعادة بنائه الروحي الذي لا بدّ منه ليكون الإنسان إنساناً، بل بقي متأرجحاً بين الإنسانية والحالة الآلية الناجمة عن مقولة )صناعة الإنسان(، هذه المقولة التي دأب على ترويجها عتاة النازيين، وغلاة المرحلة الستالينية على حدّ سواء.‏

ملاحظة:‏

كنت قد أنجزت هذه المادّة قبل حصول كاتبة الرواية هيرتا مولر على جائزة نوبل للآداب لهذا العام، ولي أن أشير إلى أن حصولها على الجائزة لم يغيّر شيئاً مما كنت قد أعددته، ومع ذلك، وأنا المتخم بالارتياب مما تفعله مؤسسات الغرب الرسمية وغير الرسمية حتى الاختناق، لا أستطيع منع أفكاري من سلوك قنوات مخفية أخرى مسكوت عنها، أو معلن عنها في أعمال أخرى للكاتبة، لتلمس إضاءات إضافية محتملة، وأنا أعيد القراءة والتأمّل في )أرجوحة النفس(.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية