|
ملحق ثقافي ومكانة بارزة مرموقة في تكوين العلوم وتطورها في العالم اللاتيني في العصور الوسطى، وقد كُتِبَ اسمه في المصادر اللاتينية بصور مختلفة فهو Razes أو Rhazes اوRaghensis وbubcaris وFili Zachariae، وغير ذلك من صور. ولازمه نعت الطبيب “Medicus” في كثير من الأحيان.
ولما كانت ثقافته متعددة الجوانب تعذّر تبيّن الحدود الفاصلة بين “الرازي الطبيب” و”الرازي الكيميائي”، بين “الرازي العالم” و”الرازي الفيلسوف”، بين “الرازي النظري” و”الرازي التجريبي”. لكن تدبر أعماله بنظرة شمولية موحدة يكشف عن شخصية فريدة. ولد الرازي في مدينة الري في 18 آب 865 وتوفى في بغداد )ويقال في الري( في 26تشرين أول 925 تبعاً للبيروني الذي حدد تاريخ وفاته، ثم قال “استوفى من السنين القمرية اثنتين وستين سنة وخمسة أيام، ويكون بالشمسية ستين سنة وشهرين ويوماً”. لا نملك الكثير من أخبار نشأته الأولى. فنحن نعرف أنه درس مبكراً علوم الأوائل ومنها الموسيقى، وتعلم الشعر، ومارس علم الصنعة، ثم تحوّل إلى الكيمياء، وانتقل في العقد الرابع من عمره إلى دراسة الطب والفلسفة. ولا يمكن أن يكون أستاذه في الطب ابن ربّن الطبري، لأن هذا توفي سنة )240/855( قبل أن يولد الرازي. أما البلخي الذي يقال إنه كان أستاذه في الفلسفة فلا نعرف هويته بدقة، لأن البلخيين المشهورين في عصره كثيرون. حقا أن بينه وبين بعض البلخيين مساجلات ولكن ذلك لا يكفي لتحديد أيّ البلخيين كان أستاذاً له. وقد كان الرازي معاصراً لإسحاق بن حنين، وعرف الحلاج. وكان من تلامذته النابهين في الطب: أبو بكر بن قارون الرازي، ومن المحتمل أن يكون يحيى بن عدي ممن درسوا عليه أيضاً. وكان الرازي غزير التأليف؛ ويمكننا أن نجرد من )رسالة البيروني( ثبتاً بمقدار ما ألف الرازي بين كتاب ورسالة ومقالة في حقول العلم المختلفة على الوجه التالي: أولاً: 120 في الطب والكيمياء والفيزياء والرياضيات والفلك. ثانياً: 45 في المنطق وفلسفة الطبيعة وفلسفة ما بعد الطبيعة والإلهيات وفلسفة الأخلاق. ثالثاً: 19 في فنون عامة. وهذا الكشاف لأعداد كتب الرازي يفسّر لم اشتهر الرازي بالطب والعلم أكثر مما شُهر بالفلسفة؛ ولماذا أغفلته الترجمات اللاتينية فيلسوفاً في العصر الوسيط؛ ولماذا غلب على أعمال المستشرقين التقليدية البحث في الرازي العالم بينما ظل الرازي الفيلسوف مجهولاً حتى سنة )1939( عندما نشر بول كراوس بعض رسائله الفلسفية مع قطع مقتبسة من مصادر فلسفية وكلامية وجدلية ضاعت أصولها المخطوطة. تناثرت مؤلفاته المخطوطة في مكتبات الشرق والغرب. وعلى الرغم من الجهود التي بذلها فرات فائق في متابعة مؤلفات الرازي المخطوطة، يبقى عمل سزكين هو الأشمل في معرفة تلك المخطوطات. ولابد من أن نشير إلى )ثلاث رسائل في التشريح(، وأن نلاحظ أن كتابه )سر الأسرار( الذي سبق أن نشره روسكا )سنة 1937( يختلف عن نشرة كريموف في طشقند )1957(. وكذلك نجد في )ست رسائل من التراث العربي الإسلامي( عدداً من الرسائل القصيرة للرازي. أما القطع الفلسفية التي جمعها كراوس وهي تنتمي إلى مؤلفات له مفقودة )مثل كتاب اللذة، كتاب العلم الإلهي، القول في القدماء الخمسة، القول في الهيولى، والقول في الزمان والمكان، القول في النفس والعالم، والمناظرات بين أبي حاتم الرازي وأبي بكر الرازي( فإنها لا تعوّض إلاّ القليل عما فُقِدَ من كتبه ورسائله التي لم يبق منها غير هذه الشذرات المتناثرة في كتب خصومه؛ وذلك قد يضعف الوثوق بها. وقد كان الرازي أغزر الأطباء العرب في التأليف على الإطلاق )ابن أبي أصيبعة343:1ـ361، وفرات فائق: 68 ـ145(، حتى أن أعماله الطبية والعلوم المتصلة بها تتجاوز أعمال مدرسة حنين بن اسحاق بكاملها، أو أعمال يوحنا بن ماسويه وثابت بن قرة معاً، أو أعمال قسطا بن لوقا وابن التلميذ وابن بطلان وابن رضوان مجتمعين. وحين نتمعن في الأعمال التي نُقِلَتْ من العربية إلى اللاتينية نلاحظ أن مؤلفات الرازي المترجمة تزيد على مجمل جميع أعمال الأطباء العرب المنقولة، وفي مقدمة ما نقل كتابه الضخم «الحاوي» في 25 مجلداً وطبع أول مرة في برشيا )سنة 1486( ثم صار الكتاب يعرف فيما بعد بـ )Liber Continens(، ونشر في فينيسيا )البندقية(. وبفضل هذا الكتاب وغيره مما نقل له من كتبه الطبية، نال طب الرازي في العصور الوسطى أعلى درجات التقدير في معاهد أوروبا العلمية عامة، وفي كلية الطب بجامعة باريس على وجه الخصوص. لقد أقرّ الباحثون، فيما يشبه الإجماع، بالمنزلة المرموقة للرازي في ميادين الطب المختلفة، وعدّوه واحداً من أكبر الأطباء في تاريخ الطب في العالم. أمّا دور الرازي الكيميائي في تاريخ تطوّر المعرفة العلمية بالكيمياء، في الشرق والغرب، ومن الثابت لدينا الآن أنه كان طبيباً ممارساً للتجارب الكيميائية الطبية، حتى ليصعب الفصل بين كونه طبيباً وكيميائياً. وقد عزّز الرازي في تجاربه قواعد العلم التجريبي حتى عده جلّ الباحثين في تاريخ الكيمياء - وبخاصة روسكا - رائداً كبيراً في تأسيس الكيمياء التي عرفها العصر الحديث. أمّا في فلسفة الرازي، فإن البحث يوصلنا دائماً إلى حقيقة عجيبة هي هذا الإغفال لدوره في تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية حتى ظهور بعض رسائله الفلسفية مطبوعة. وعلى الرغم من مرور حوالي سبعين عاماً على ظهور نصوصه الفلسفية من مطاوي النسيان؛ فما زال البحث في فلسفة الرازي جديداً أو قاصراً عن إبراز دوره الصحيح في هذا الميدان. والمتدبّر لفلسفة الرازي يدرك أنّه كان يرى سقراط مثله الأعلى في الفلسفة. وحين اتُّهم الرازي من قبل خصومه بأنه لم يكن حكيماً فيلسوفاً، ردّ عليهم بتوضيح المعنى الدقيق الشامل للفلسفة، في “السيرة الفلسفية”. لكن مسألة تحديد ملامح فلسفة الرازي لا تقف عند سقراط، بل تتصل بديموقريطس وأفلاطون. وإذا كان الرازي قد رأى في سقراط نموذجاً مثالياً للفلسفة الأخلاقية، فإنه قد تابع أيضاً ديموقريطس في نظريته الذرية في طبيعة المادة، كما تابع أفلاطون في مسائل ما بعد الطبيعة مبتعداً عن التيار المشائي الذي مثله في الإسلام بأنحاء متفاوتة كل من الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد. والحقيقة أن الرازي كان ثابتاً في مخاصمته للفلسفة الأرسطوطاليسية. وإذا كان لنا أن نحدد مصادره الفلسفية اليونانية فهي بكل تأكيد، الفيثاغورية والأفلاطونية والأبيقورية والرواقية. ومع ذلك فإنه لابد من تكرار القول إن جهلنا بجل أعماله الفلسفية يجعلنا غير مطمئنين إلى أي أحكام وثوقية بشأن أي تحديد نهائي لآرائه الفلسفية. وعند النظر في العناصر المتوافرة من فلسفة الرازي يتبين للناظر أمران: أولهما، أن الرازي قد عالج منهجياً الموضوعات الفلسفية الكبرى التي شغلت الفلاسفة قبله، وهي موضوعات المنطق، والفلسفة الطبيعية، وما بعد الطبيعة، والأخلاق. وثانيهما، أن المسألة الإلهية هي المحور الأساسي في فلسفة الرازي، وهي تشكّل منظومة متكاملة متجانسة، قوامها خمسة مبادئ أزلية )قديمة( هي: الهيولى، المكان، الزمان، النفس، الباري )الله(. ولا تسعف المعطيات المتوافرة في بيان حقيقة فكره بوضوح في مسائل النوع الأول. فنحن لا نكاد نملك غير مجموعة من العناوين التي لا تُعرِّفُ بشيءٍ على نحو قاطع؛ لكن من الممكن ملاحظة أثر أرسطو في نسيجه المنطقي في المقولات والقياس والبرهان وعموم المداخلات المنطقية حتى تلك التي تعود إلى تحديد الأجناس والأنواع التي نظر فيها فرفوريوس في كتابه “ايساغوجي” أو )المدخل(. ومع أن فلسفة الرازي الطبيعية تستلهم بالدرجة الأولى الأفكار الفيثاغورية والديمقريطية فإنها تصدر أيضاً عن عناصر أرسطاطاليسية. ومن الواضح أن ميتافيزيقا الرازي تستلهم صراحة، وبوعي جلي، محاورات أفلاطون. وفي المسائل الأخلاقية يحتل سقراط )الأفلاطوني( مكانة مرموقة في فلسفته؛ فسقراط هو الإمام الذي يحتذى، والإنسان النموذج لكل فيلسوف. وتدل نصوص الرازي في هذا الحقل على معرفة حسنة بالفلاسفة القدماء. وقد نبه فهمي جدعان إلى الأثر الرواقي الصريح في آراء الرازي الفلسفية وجعله أحد ممثلي المدرسة الأخلاقية الإسلامية التي تستند إلى قواعد أخلاقية صادرة عن تركيب متميز من الأفلاطونية والرواقية معاً، وهي المدرسة التي كان رائدها الأول الكندي الذي وضع أساسها الأول في رسالته “في الحيلة لدفع الأحزان”. وليس من العسير بيان طبيعة المذهب الإلهي الذي أخذ به الرازي في المبادئ الخمسة القديمة. فهو يعتقد أن مـــادة هذا العالم مخلوقـــة )محدثة( من مادة أولى غير متعلّقة بصورة قبل الخلق والحدوث، وأن هذه المادة الأولى )الهيولى( قد سبقت وجود العالم المادي منذ الأزل، فالهيولى إذن مبدأ أزلي عنده. والهيولى بما هي أزلية، لا تحتاج إلى مكان جزئي محدد، وإنما إلى المكان المطلق فحسب؛ وهو الخلاء، الذي يتصف بأنه لا يتناهى، وهو مبدأ أزلي يمكن أن ينفصل عن الجسم المادي، فيكون بعد ذلك مكاناً مطلقاً موجوداً منذ الأزل، مساوقاً لوجود الزمان المطلق أيضاً. والزمان عنده مبدأ أزلي مستمر لا يتعلّق بحركة الأجسام المادية في المكان الجزئي، وإنما تكشف عنه الحركة وجوداً مستمراً وتظهره من سياقه الأزلي محدثاً. لذلك، فالزمان المطلق لا يتناهى، ولا ينحصر، وهو الدهر؛ وهو موجود قديم سابق على وجود الزمان الجزئي في العالم المحدث وحركاته، وهو مطلق قرين إطلاق المكان )الخلاء( والمادة الأولى )الهيولى بلا صورة(. ثم تأتي النفس المجردة قبل اقترانها بالصورة المادية. وهي عنده مبدأ أزلي، كانت موجودة هكذا منذ القدم قبل الصورة، وقبل أن تتحدّد بمكان جزئي للأجسام، وقبل أن تكون في حركة الأجسام المحدثة المظهرة للزمان المحصور. وبين النفس والهيولى رباط عشق، تتجلّى منه قدرة الباري )الله( على الخلق، في اتحادهما عندما خلق العالم بصورته المادية، وعندما تتحرر النفس من المادة )المحدثة( في هذا العالم، فإنها تعود إلى العالم العقلي. والباري )الله( أحد المبادئ الأزلية القديمة التي تقوم عليها ميتافيزيقا الرازي. والباري هو خالق هذا العالم ومُحْدِثه باتحاد النفس والهيولى، وإخضاع وجودهما الكوني للمكان الجزئي والزمان المحصور في عالم الكون والفساد. والباري لم يزل خالقاً للعالم وأجزائه في كل مرة تتحدد فيها النفس بالهيولى. وللرازي آراء أخرى مبثوثة في نصوصه تكشف عن اعتقاده بأن الجسم هو في ذاته مبدأ الحركة، وبأن للطب الروحاني دوراً في تدبير النفوس البشرية. وعنده أن اللذة هي الراحة من الألم، وأن الشر أكثر من الخير في هذا العالم. |
|