تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


قطــــــار

آراء
الأربعاء 21-10-2009م
جلال خير بك

لم يعد يعلق في الذاكرة سوى أطياف من الماضي البعيد.. تنشر أشرعتها على ريف البحر ذلك المدى الرحب الذي لا يهزمه الإبحار ولا يفك ألغازه دأب الباحثين... ذلك زمان مضى من طفولة ثرة الصور تنقل خطواتها بين المدن الساحلية حتى استقرت يفاعتها في أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ.

وما بين الطفولة واليفاعة والشباب والكهولة شريط يعبر العقود من السنين بومضة أو بعض ذكرى، فللتاريخ نكهة الماضي والحاضر، أما الذي يأتي فهو ملك المطلق!!‏

بين هدوء البحر وهيجانه تنوس النشأة والحياة...ويتعرف العقل على خبايا الدنيا ويفاضل بينها.. بين براءة الصغر وتشابكات الراهن ومطحنته التي لا تتعب من طحن المصائر!‏

من زمان القلة إلى زمن الكفاية لا تبرق في الخاطر أو الأفق سوى معمعة لا تنتهي بين الحدين... حد القناعة الصادقة وحد اللعب على الحبال لتحصيل ما هو زائل بالبداهة !! فإن انتصر الأقنوم الأول مضت الحياة رتيبة تشهد مئات الصور لبشر يمشون كالقطيع تدفعهم رغاب خسيسة يحصلون مالهم ومال غيرهم كيفما اتفق، فيصعدون السلالم لا يعرفون أية جثث تطأ أقدامهم، وعيونهم إلى الأعلى لا تهمهم المسالك أو المعابر، فشغلهم الشاغل هو تحصيل كل شيء ولا يهم لمن كان ولا من حق من كان، فيرتمون في الخاتمة على بحر من الأموال والمناصب الفاقعة التي حلبوها ويحلبونها كيفما كان، ليعصروا منها كأساً جديدة تروي عطشاً لا يرتوي وشراهة دون حدود!!..‏

يحضر الزمن إليهم فيتداوون بالمال ويأكلون المال ويشربون ما حصلوه من عرق وحق وتعب الناس لا يهمهم حق أو قناعة أو يقين ينخز ضمائرهم دون جدوى!!‏

يمضي الزمان كومضة عين، فإذا الحاضر أكثر شرهاً وضراوة وإذا القناعة فاقة لا تنفعها الذكرى!!.. وتمضي السنون ومازال الضمير ينشر بيارقه البيضاء في سماء كأنها الغاب بوحوشه وضراوته، والندم لن يكون محطة أخيرة ولا عباءة تلف الماضي كله... بل سيبقى الإصرار النظيف شراعاً يمخر هذا العباب الذي لا بد أن تتكشف راياته البيضاء مهما طال الزمان!!‏

في هدأة الكون ومراجعة الذات تبدو الأسطورة خيالاً من عنتٍ وتوقٍ إلى مدن فاضلة تنتصر فيها الأنا الجمعية على الأنا المفردة وقطار الزمن ماض دون توقف حتى في محطات صيفية، ولا يترك للمسافرين فرصة إلقاء نظرة أخيرة على عالم ملأته الرغائب الشخصية ومتعة جمع الأكوام!! وبين عجلاته المسرعة تتقرر حقائق عجيبة وتلمع بين حين وآخر ملهاة الذي كان والذي يجب أن يكون والبشر خيالات طافية في فضاء لا جاذبية فيه والفجر والمساء وظائف راهنة تؤدي دورها بصمت الأموات، بلغة تملك الفصاحة والبلاغة ولا تعدو كونها مؤدياً لا يرقى إلى فضاء الابداع وروعة التراجيديا الخالدة!!‏

تمر السنون برتابة قاتلة وتلقي بوشاحها الأخضر فوق الكون الباهت الحزين لتوقظ في أعماقه قدرة الخلق وفكاهة التبديل.. وشخوص الملهاة من لحم ودم يسيرون بمقدار، ويؤدون أدوارهم الرتيبة بمقدار... لا تبين ملامحهم الجزئية ولا تفصح أعماقهم عن مكنون محسوب ومدروس فتتلاشى بين خطواتهم غمائم الإمطار وهدير الرعود وروعة البروق التي لا تمهل التائهين لحظة لإعادة النظر في الحياة.. فيمضي الزمان مرنحاً أشياءه، بين الأداء الرتيب وانتظار قدرة الخلق التي لا تأتي، فيشمر عن ساعديه ليعمل بكد وتعب على إعمار كون لا ناقة للبشر فيها ولا جمل!! بل (تلهف) تعبه حفنة من متقني ركوب الرياح والبروق وقطف ثمار عرق الجباه الصغيرة!!‏

في هدأة الكون تبدو المراجعة عبثاً، ويبدو الزمان عنيداً لا يرحم قوافل البسطاء.. تمتطي صهوته وجوه طافحة بالبشر متخمة إلى حد الانفجار... لا تشبع من المطر والسحاب بل تشرب العباب كله وتظل عطشى، وكأن الزمان خلق ليروي حلوقها التي لا تعرف حد الاكتفاء أو القناعة... فأي غدٍ ذلك الذي سيأتي؟ إنه أحلام وكذبة فصيحة!!‏

منذ عمق التاريخ والعقل ماضٍ في حساباته وإبداعه.. وتوزيع أيام الزمان على القطعان التي لا تعرف إلا النظر إلى الشروق والغروب لتعمل بكدٍ بينهما وكأن الغد وما سيأتي ملك الغيب وأسير الحفنة الماكرة!!.. في هدأة الزمان يسير كل شيء بيسر وهدوء. وجنون اللحظة الفاعلة سراب بسراب!! ويوم تنفتح العيون على الفجاءة القاتلة يكون القطار قد أنهى سكته وأنجز السفر، والزمان أكمل دورته بانتظار قطعان جديدة!!.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية