|
ثقافة فهل يعني هذا أن محمد عمران أسقط تجاربه القديمة في الشعر التقليدي من حساب حياته الأدبية ولم يعد يتبناها أم إنه يعتبر التمرس بالشعر الكلاسيكي مرحلة أولية يركز الشاعر أقدامه على أرضها لينطلق بعدئذ إلى خطوة الشعر الجديد؟.. إن كان هذا أو ذاك فإن صاحب «أغان على جدار جليدي» قد اكتسب- لاجدال- من ممارسته الطويلة للشعر الموروث، قوة العبارة وانسيابيتها صياغة وصباً، وسهولة الوقوع على القوافي الملائمة دون عناء وتقلقل، وهذان، فيما أرى، شرطان أساسيان ليس في الشعر القائم على وحدة التفعيلة فحسب، وإنما في كل شعر يبغي الجودة والأصالة والتأثير على القارىء وشد انتباه السامع. تتحدد الرؤيا الشعرية عند الشاعر محمد عمران في مضمونه الإنساني الرحب العميق، واتخاذ الأسطورة والرمز سبيلاً من سبل الشكل الحديث، وهكذا يتعانق المحتوى الحياتي المتغلغل في صميم العلاقات البشرية حداثة وحضارية، مع أداء شعري (تقني) في وحدة عضوية فنية متآزرة. وقد كان الفكر لمرحلة قليلة خلت من الزمن، يرى في الأسطورة قصة وهمية وضعها خيال بدائي طفولي، أما حالياً ومنذ نهضة الفنون والآداب في العالم، فقد تغيرت النظرة إلى الأسطورة بحيث أصبحت طريقة في الطرق الشعرية لتفجير المعاني الكامنة في الوجود ولتوظيفها فنياً ومضمونياً في الواقع. واعتماد الأسطورة والرمز- في جميع قصائد الديوان- وسيلة من وسائل التقنية أصالة لاتقليداً وجرياً وراء الشائع- يعتبر في حد ذاته «موقفاً فكرياً» من الأدوات التعبيرية عند محمد عمران بغض النظر عن نجاحه أوعدمه في هذا الاعتماد، علماً أن السياب والحاوي كانا أهم شاعرين في شعرنا العربي المعاصر استعملا الأساطير والرموز والحكايات الخرافية في أعمالهما الشعرية وحققا امتيازاً خالصاً بارزاً في هذا الميدان. ولاشك في أن الأسطورة في الشعر الجديد كما كان يسمى في مطلع ولادته تخدم معطيات العصر الفكرية حيث يستطيع الشاعر بوساطتها أن يربط بين الحاضر والماضي والواقع والخيال ربطاً حضارياً مثيراً، كما تعطي في الوقت نفسه للشكل نوعاً من الديناميكية والتحرر، هذا عدا كونها، وهو الأهم تنأى بالشاعر عن التقريرية والمباشرة بكل ثقلهما وبرودتهما في القصيدة، إضافة إلى ذلك فإن الأسطورة تمكن الشاعر من الخروج عن نطاق الذاتية المغلقة إلى تجربة الإنسان في هذا الزمان وكل زمان. وشاعر (أغان على جدار جليدي) يستخدم ثلاثة أنواع من الأساطير، في ديوانه استخداماً مستقلاً لامتداخلاً، أولهما الأسطورة الشعبية المحلية إن صح التعبير وثانيهما الأسطورة الإغريقية وثالثهما الأسطورة العربية (مع بعض التجاوز في التسمية). والأسطورة الشعبية المحلية عند محمد عمران قصة واقعية في مروياتها الشفاهية ولكنها لغرابتها وشجاعة بطلها الخارقة، وتردادها على ألسنة العامة، في الريف خاصة أصبحت (أسطورية) أي خرافية أو خيالية لبعدها عن الواقع في الإمكان وقربها من التصورات والأوهام. وقد استفاد الشاعر من هذا النوع من الأساطير من قصة (أبو علي شاهين) المشهورة، ذاك الفلاح الثائر الذي تمرد على واقع الظلم والتخلف والحرمان في عهود الإقطاع والتبعية وتسلط الاستعمار، فثار على رموزها وأصنامها المتجسدة في المستبدين من الحكام، وغدا (فرارياً) يقتات بالذعر والدم، يطلب رأسه «الآغا» و«السلطة» معاً وقد سبق محمد عمران إلى استخدام هذه الأسطورة في حوار مسرحي شعري سمي «المخاض» لممدوح عدوان فأصاب نجاحاً مرموقاً في تطويع اللغة العامية وتفصيحها واستخدامها استخداماً موظفاً لحيوية المسرحية. وقد جسد الشاعر محمد عمران أسطورة (شاهين) في خمس لوحات شعرية حية تنبض بالتدفق والتلاحم والتركيب الفني الأصيل وهي على التوالي: (لوحة الذئب، لوحة سيغانا، لوحة اللقيا، لوحة الماضي، لوحة الغيبة). وفي (الذئب) يصور شاهين: «فارس يطلع من صدر البراري حاملاً جرح النهار والدم النافر في رعب العروق». وفي مجال الأسطورة الإغريقية يحاول الشاعر أن يستفيد من (الأدويسة) وعودة (أوليس) لزوجته (بينلوب) بعد تشرد وعذاب وغربة وشوق، ومع إعجابنا بـ «الشعر» في أناشيد (عودة أوليس) وما فيها من عاطفية وحرارة وصدق شعوري إلا أن الشاعر لم يخضع الأسطورة اليونانية القديمة لتمثل حضاري معاصر أو إسقاط على الواقع كماينبغي أن تكون الاستفادة من الأساطير وإنما رواها فقط رواية بشكل شعري كثير الجاذبية والشفافية، ولكن النجاح الجمالي في مقاطع القصيدة لايشفع لها، لأن سرد أسطورة (أوليس وبينلوب) مستقاة من ملحمة (الأوديسة) على سبيل الحكاية من شأنه أن يجعل الأسطورة غاية بذاتها، وبذلك يصبح الشعر وصفياً قصصياً تسجيلياً وهذا ما امتنع على الشعر أن يفعله كما يقول بعض النقاد، بعد (بودلير) إن الجمالية الشعرية ولاشيء سواها هي أجمل ما في هذه الأناشيد: عتيق وجهك المهدوم ياأوليس سيفك لم يعد فيه بريق الأمس، مات شبابه في الحرب مات تعلقي فيه لماذا عدت..؟ أحمل وردة من آخر الدنيا لأحبابي لبنلوبي، لقصري، للحجارة فيه، للسور الذي سيجت عزته بأهدابي وفي الديوان الذي بين يدينا يحاول الشاعر أن يحيي الأسطورة ذات الطابع العربي الشعبي القديم بشخص الملك شهريار في قصص ألف ليلة وليلة، إحياء حضارياً سلبياً حديثاً فيعبر من خلاله عن جموح العصر نحو الخوف والخديعة والقتل والتردي في انتشاءات الجنس وإدانة جميع ممارسات إنسانه البشعة بطريقة غير مباشرة: وشهريار بيت بلا جدار ليل من العهر، والجنون والدمار وشهريار محارب، أبوه من فوارس التتار ثم لايكتفي الشاعر أن يلبس شهريار الأسطوري هذا الثوب الإسقاطي المعاصر، وإنما يجعله بعد الخامس من حزيران 1967، يكتب مذكراته نموذجاً للفرد الذي كان غارقاً في التفاهة والسلبيات والقيم البالية، وعدم الاكتراث بهموم العامة والكادحين على أنواعها، والعيش في الأبراج العاجية، ثم تصدمه النكسة الرهيبة أو الهزيمة الشنعاء، فيستيقظ من جحيم لا انتمائه وهروبيته وانعزاله وذاتيته المفرطة، على وقعها المؤلم الحزين المدمر، ليجد كيانه قد ضاع وتبدد كبرجوازي كبير فوقي منسلخ عن جلده، فيأكله الندم الخانق ويرثي نفسه المعذبة رثاء مراً: مدينة الحزن أنا أقفلت أبوابي على البطولة مدينة الحزن أنا، ضيّعت مفتاحي إلى الرجولة والحق أن محمد عمران قد طوع الأسطورة هنا و«عصرنها» وأعطاها أبعاداً ترتبط بواقع الأمة العربية وبانتفاضاتها الثورية المتقدمة البناءة، وبتطلعاتها الصميمية إلى مجتمع جديد يحارب التخلف والتأخر ويدعو إلى الوحدة والتقدم. ويتابع الشاعر استغلاله الفني للأسطورة باستخدام ابنها الحبيب وهو الرمز وذلك في القسمين الأول والثاني من «أغانٍ على جدار جليدي» التي سمي بها الديوان وفي «أشعار للأخت المسبية» مستعيناً برمز «الأخت» في التلميح الشفيف الناعم إلى فلسطين المعذبة وهي تمد يديها المكبلتين مستنجدة بأخيها العربي ليخلصها من عارها العشريني آنذاك ويمحو عنها ذلها الغاشم: سمعتك قادماً في الريح أفق ياجرح، هذا فارس الأشواق هذا رمحك الفادي رأيتك قادماً في الريح.. جئت إذن كم انتظرتك أبوابي شبابيكي التي صدئت.. حجارة بيتي الكابي وبكلمة موجزة: إن هذا الديوان جاء مثالاً جيداً لبداية من بدايات حركة الحداثة، بصياغة فنية جمالية، وكان نموذجاً للشعر الهادف بمضمونه البناء الملتصق بإهاب الإنسان العربي المتطلع إلى غد اشتراكي أفضل، ومن أعظم ميزاته، البعد عن التقريرية والجفاف وانتفاء الذاتية انتفاء تاماً حتى لكأن شخصية الشاعر ذابت بشكل حلولي صوفي تقدمي في تيار الجماهير العربية الحاشد، والقدرة البارعة المتمكنة على التلوين الفني والصوتي في تداخل الأوزان المتغايرة، في مقاطع القصيدة الواحدة تبعاً للمواقف والعواطف والانفعالات إضافة إلى الأسلوب الناضر الهادر الذي يجمع بين تفجير العبارة وحيويتها، وتناسقها الموسيقي وانسجامها التركيبي للألفاظ، وبين نعومة صافية انسيابية ذات ظلال وإيحاءات في الأداء التعبيري، ما كان يشير جميعه في حينه بشاعر متفرد جاد، له طعم خاص ونكهة جديدة. |
|