تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


سورية الجميلة... رسائل الحب الستيني (68)

ثقافة
الثلاثاء 10-3-2009م
أســعد عبـود

شغلني حديثه .. رجل ممتلىء بالحكايات.. جاورته مع زميله البحّار في صدر سيارة صغيرة قديمة أدمنت الرحلة بين اللاذقية وجبلة وبالعكس.. ليل وأمطار ومع ذلك لن استرق السمع لهذين البحريين أكثر من نصف ساعة..

كان يخبر زميله عن جراحة أجراها في المشفى وزعم أن تخديره كان صعباً وأخذ وقتاً وأكثر من إبرة.‏

- «شو يعني»؟! كل الناس تتخدر من إبرة واحدة.. ما الزيادة فيك؟‏

 أنا هكذا.. أحتاج إلى مخدرٍ أكثر..‏

- أنا عملت عملية وخدروني وتخدرت من أول إبرة..‏

 أنا احتجت أكثر..‏

- هذا غير صحيح بصراحة «عبد»!!‏

 بل صحيح.. أنا «بشرب كاس»..‏

- وأنا «بشرب كاس» وتخدرت من أول إبرة..‏

 أنا أحشش.. أنت تحشش أيضاً..؟!‏

- حشيش.. لا.‏

انتصاره أعطى حديثه انطلاقة أخرى.. اختلطت الحكايات بالوهم «ربما».. تحدث عن بحر لا يهدأ وآخر لا يثور.. تحدث عن جزر صغيرة متناثرة على سطح البحر ممتلئة بالورود والطيور.. عن نار أضرمها فوق جليد بحر متجمد.. عن حوت أكلوا من لحمه وبقي حياً..‏

عن مرافىء.. موانىء.. عروسات بحر وبغايا.. عن.. وعن.. الخ.‏

كأن زميله أراد عمداً تغيير الحديث..‏

قال: من ربح في الرهان على صدر الكنافة؟.‏

 أكلناه أنا وعمر..‏

- يخرب بيتكم 8 كيلو كنافة (نقفتوها)..‏

فجأة صمت.. عرف صديقه كيف يعيده من ملاحة الحكايات بين البحار والخيال إلى عالم الواقع..‏

غمرنا صوت المطر العاصف ولعل كلاً منّا رغب في مزيد من الحكايات.. تدخل السائق مستثيراً البحارين للحديث.. وفوجىء بموقف «عبد».. بصوت جاد واضح اختلف كثيراً عن صوته الراوي.. طلب من السائق أن يهتم بشغله.‏

قال السائق:‏

- «عم نتسلى»..‏

 ليست مهمتي أن أسليك..‏

- وحدك كنت تحكي..‏

 كنت أحكي لمن يسمع وأنت يجب ألا تسمع..‏

- لماذا؟‏

 الحكاية تحتاج من يستطيع أن يتلقاها وأنت مشغول..‏

- كيف يعني.. لم أفهم..‏

 لو ناولتك كأساً أو إبريقاً أو سيفاً أو سكيناً.. أو.. فهل تأخذه وتترك المقود؟.‏

- هذا مختلف..‏

 لا.. لا يختلف .. الحكاية أيضاً تحتاج إلى من يتلقاها، وقد تقع على الأرض وتنكسر.. ويبكي صاحبها..‏

مشيت على رصيف تغمره المياه.. المطر الساحلي الغزير لم يتوقف، فشلت في حفظ وجه الرجل.. ضوء السيارة مع فتحة الباب لم يكن كافياً.. ولن أراه بعد اليوم..‏

يجوبون البحار.. ينقلون البضائع والركاب.. يصطادون الأسماك.. ويلملمون الحكايات.. الوحدة والمسافات وعالم الغربة يولد الحكاية..‏

للبحر ملاحون.. وللبراري أيضاً.. هنا وهنا صيادون يقتنصون طيراً أو يعلقون سمكة أو يصنعون رغيف خبز..‏

ظل العسلي ستين عاماً يروي ويحكي حكايات الأرض والحجر والشجر والحيوان والطير.. ستون عاماً لم يهدأ لسانه..‏

على عكس صديقه اللدود أبي ميهوب.. ستون عاماً من سكوت ذهبي وحديثه من ضحك..‏

السهرة مع العسلي كانت دائماً شجية بالحكايات.‏

السهرة مع أبي ميهوب دائماً سكرانة..‏

يروي العسلي‏

 اليوم شاهدت الحجل «في باب الحقن» أول مرة في حياتي.. أجده هناك.. سمعت كروتته وتبعت الصوت.. كما توقعت كانت «الحجلة» تقود صيصانها.. نظرت إليّ ولم تطر.. لا تترك صغارها ولو ماتت.. أنا لا أضرب على الحجل إلا عندما يطير..‏

تركتها لكروتتها.. أنثى الحجل فضيحة.. تكروت كي لا يتوه عنها صغارها.. الذكر غير شكل.. يتموه بشكل جيد.. وفي موسم الحب يطلق نغمات صوفرة أجمل من منجيرة «أبو رفيق».‏

- قديمة يا عسلي.. قديمة..‏

 الحجل من أقوى الطيور - يتابع - يمكن أن يألف الإنسان قليلاً لكنه لا يحب إلا بحرية.. كثيرون ربوا الحجل.. عندما يبدأ موسم التفريخ يغيب.. أو لا يفرخ.. لو قبل أن يفرّخ عند الإنسان لأصبح دورياً..‏

- قديمة ياعسلي... قديمة..‏

نظر إليها مستنجداً.. لم تتكلم.. سألها:‏

 قديمة..؟! قالت: وطويلة أيضاً..؟1‏

قال أبو ميهوب:‏

- ستمضي حياتك ولا تشبع من الحكي.. قل لهم ما يضحكهم..‏

 أنا أروي للحب..‏

- «ما حدا حاسس».. يا عسلي.. تعال وخذ معي كأساً واروِ لهم نكتة.‏

نظر إليها وفي عينيه ظل خوف.. وروى عن بلاد يقتلون فيها الحصان عندما يهرم..‏

قالت: وما في ذلك..‏

قال: أنتم تقتلونني..‏

- عسلي.. لا تكبر القصة..‏

 يا زهرة.. هذه الحكايات مثل دمي.. وهاهي تسيل على الأرض..‏

- ارو غيرها..‏

 ليس في البراري كل يوم جديد.‏

- اخترع..‏

 لن أذهب بك إلى الوهم..‏

كتب علاء:‏

خفت عليك مرتين.. عندما حاولوا تثبيتك في المكان..‏

وإذ يحاولون إطلاقك في الفضاء..‏

قالت علا:‏

لا تخف.. حيث تكون سأكون.. وحيث أكون ستكون معي.. اتل حكاياتك فأنا عاشقة..‏

كتب علاء:‏

لا أخاف على حكاياتي.. ولو كررتها.. أنا لست العسلي ولست أبا ميهوب.. لست بحاراً عابراً في عربة صغيرة وغيمة مطر.. أنا أروي لها فقط..‏

مضت العربة وفي داخلها البحار وصديقه.. وسيل المطر المولود للحظة يتحول إلى جداول تتجه إلى بالوعات الشارع..‏

قالت علا:‏

بل إلى البحر... a-abboud@scs-net.org

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية