تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


هل هو مأزق أم.. ؟!

ثقافة
الأربعاء 15-6-2011
عبد الكريم الناعم

-1-

كلما حاولت أن أبتعد ولو مؤقتاً، عن مسألة الإيقاع في الشعر، وجدت شيئاً ما يشدني بقوة، وبعضه يصل درجة الاستفزاز، فأضطر للعودة موضحاً، أو ملقياً ضوءاً على أمر لم يعد يشكل أي اهتمام لدى(فريق)‏

أدبي من أجيالنا المعاصرة، ولعل المثير في الأمر، وهو ليس جديداً، أن بعض أبناء الأجيال الشعرية الجديدة،ولاسيما الذين لم يتخلوا عن إيقاعية الشعر، بنمطيه العمودي والتفعيلي، يلمسون ما أنا بصدده ويصمتون، كما صمت شعراء كبار من قبل، والدوافع في الأغلب الأعم، أنهم لا يريدون أن (يزعجوا!!) أحداً من أبناء جيلهم، ويصروا على أن يكونوا على وفاق مع كل ما يجري بما في ذلك الارتكابات التي سنتعرض لواحدة منها.‏

-2-‏

في صحيفة غير مركزية، وأنا من الذين يتابعون بقدر ما، قراءة ما تكتبه الأجيال المتتابعة، لتلمس الحساسية الشعرية على وجه الخصوص، في تلك الصحيفة قرأت قصيدة اختار لها كاتبها(شكل) العمود، واختار التوزيع التقليدي المعروف، أي أن يتوزع البيت الشعري إلى صدر وعجز متقابلين، ولكنني حين بدأت بقراءتها وجدت فيها من الأخطاء العروضية الباهظة ما يرفع درجة الغليان، لسبب رئيس، وهو أن مسؤولية الصفحة المكلفة إما أنها تعرف ما تحمله القصيدة من أوزار التحطيم الوزني، وإما ثمة جهل بذلك، وأنا أرجح عدم المعرفة، لأن من يعرف لا يسمح بمرور البضاعة المغشوشة، ولا سيما إذا كان لا مصلحة له في ذلك، وهذا يعني أن إسناد مسؤولية أدبية إلى من قد يشكو من نقص في الكفاءة الأدبية قد صار أمراً شائعاً.‏

كان محررو الصفحات الأدبية قديماً، في معظمهم من الأدباء، ولذا لم نكن نرى مثل هذه الارتكابات الفادحة، في الوزن الإيقاعي، وفي اللغة، وحين صار من المعهود أن يعطى الخبز لغير خبازه صرنا نرى العجب العجاب!!‏

أذكر أنني اتصلت بالمسؤولة عن تلك الصفحة، وقلت لها إن ما نشر على أنه شعر لا علاقة له بالشعر، وإن الكسور الوزنية كانت فاضحة، فأجابتني إنها لا تعرف شيئاً عن الوزن.‏

إنه المعادل الموضوعي، أدبياً لتعيين مدرس للغة العربية، مثلاً، مديراً، لمعمل، أو مدير إنتاج فيه!!.‏

-3-‏

هذه الظاهرة تكررت في صحف مركزية، لا أريد أن أسميها، كيلا يتوهم أحد أن ثمة استهدافاً، أو ما ينتج عن إساءة مقصودة، وأنا أبعد ما أكون عن هذا، وإذا كان الترخص في الكسور الإيقاعية في نمط قصيدة التفعيلة قد صار ظاهرة، و(قد) يشفع، إن كان ثمة شفاعة في هذه، أن اكتشاف الخلل الإيقاعي في نمط التفعيلة هو أصعب منه في نمط العمود، وهذا يحمل من ينشر نصاً( عمودياً) يشكو من تكسراته الإيقاعية، مسؤولية أعمق، ويجعله عرضة للانكشاف، أو للتداول غير المريح في جلسات الأدباء المؤثرين الصمت بدوافع لاتدعو للافتخار.‏

ولأنني أغضي عن التسمية لأسباب شخصية أراها مقنعة، فإن هذا لا يمنعني من أن استخدم شاهداً هو على علاقة بالموضوع وهو صديق، بحسب متابعتي لمعظم ما يكتبه، متفقاً، أو مختلفاً معه، ممن يجيدون الكلام عن الموسيقا، وله ذاكرة طيبة في هذا المجال، ومن كانت أذنه موسيقية، فهو، دون شك قادر على التقاط الكسور الإيقاعية في القصيدة العربية، وخاصة ذات الشكل العمودي، هذا الصديق أراد الاستشهاد ببيت من الشعر العربي القديم الذي كان متداولاً في أوساط الجيل الذي سبقنا، وهو من أبيات الحكمة عندهم، ولن أفترض أن الخطأ طباعي، على الرغم من أنه قد يكون، قد جاء ذلك في زاوية حديث «الصباح» في العدد الصادر بتاريخ 3/1/2011، في صحيفة البعث وقد جاء بيت الشعر المستشهد به على الشكل التالي:‏

دع الأقدار تمشي في أعنتها‏

ولا تبيتن إلا خالي البال‏

إن من يمتلك حساسية إيقاعية شعرية ما إن يقرأ نصف الشطر الأول حتى يدرك أن ثمة خللاً إيقاعياً، فالبيت بمجمله من بحر البسيط الذي وزنه:(مستفعلن فاعلن مستفعلن فعل)،بما لها من جوازات، بينما يكشف الوزن أن البيت الوارد يخرج عن هذا البناء الإيقاعي، ولذا تقرع الأذن الحساسة ذلك الخلل، ولا تتقبله لأنها تحس به، ولكي يستقيم الإيقاع لا بد من العودة إلى أصله وهو:‏

دع المقادير تجري في أعنتها‏

وبذلك يستقيم حضور الشطر الإيقاعي.‏

-4-‏

إذاً ثمة ظاهرة تزيد الواقع الشعري إرباكاً، وخلخلة، وثمة من يعهد إليه بإدارة أمور مرهفة ودقيقة كالهندسة الروحية، وما هو بمهندس، فما الحل لهذا الواقع القائم؟‏

أنا أقترح على من تنطبق عليه تلك المواصفات ألا يتحرج في استشارة من يعرف، فيسأله هل هذه القصيدة سليمة الإيقاع أم لا؟ ومثل هذا السؤال لا يعيب صاحبه في شيء، بل العيب أن نخرج على الناس بنصوص نتوهم، أو نظن، أو نعتقد أنها شعر،وما هي من تلك الفصيلة.‏

معظم الذين يديرون مواقع كبرى يكون لديهم مستشارون يستشيرونهم فيما يحتاج للاستشارة، فلماذا لا ننحو ذلك النحو ضماناً لما هو أكثر سلامة من الناحية الفنية الإبداعية،ولا أنصح بأن يكون التخلص عند البعض بإغفال كل ما قد يحمل شيئاً من الالتباس، لأن من لا يمتلك موهبة التمييز الإيقاعي سيقع في الكثير من أخطاء التقدير، وليس محرجاً، أننا لسنا جميعاً ممن يحملون تلك الموهبة، والموهبة كما هو معلوم تولد مع صاحبها، ولايمكن اكتسابها بالتمرين والتدريب، بل هي كامنة كمون النمو في البذرة، فإن هي صادفت مناخاً مواتياً، انتشت، ونمت، وصارت كائناً مكتملاً.‏

حين نصر على مفردة(موهبة) فلأنها موهبة، فأنا أعرف العديد من الأفراد الذين يهتمون بالقراءة، والثقافة والمتابعة، ويحفظون أبياتاً من الشعر ومنهم من لا يخطئ في القراءة الإيقاعية السليمة، ومنهم من يخطىء، وأحدهم حين يروي بيتاً، يبسط اعتذاره إن كان قد أخطأ، فهو لايستطيع التمييز بين ما هو مكسور إيقاعياً، وما هو سليم ومستقيم.‏

إن الترخص في هذا الأمر، وعدم إعطائه الأهمية المطلوبة يشبه إلى حد كبير أن يقوم مهندس معاصر بوضع مخطط لبناء يرتكز في منظوره العام إلى روح الهندسة العمرانية العربية مع بروز مايخالف تلك الروح لدرجة التشويه، بما فيه من أخطار.‏

al-naem@gawab.com

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية