|
ساخرة ويستطرد الزركلي قائلا: كان عظيم الأنف، أهرت الشدقين- أي: كبير الفم- منكر المنظر. وكان بشار بن برد يعطيه كل سنة مئتي درهم يسميها أبو الشمقمق (جزية). قال المبرد: كان أبو الشمقمق ربما لحن، ويهزل كثيرا ويجد فيكثر صوابه. أما الشمقمق في كنيته فمعناها (الطويل) كما هو وارد في معجم (أقرب الموارد) للشرتوني. ظهر في عصر الانحطاط شعراء كثيرون ظرفاء، غير أن ظرفهم اتسم بطابع خاص، هو وصف ظروف حياتهم الصعبة، والعسر الذي يعيشونه. وإذا كان في مضمون أشعارهم، ما يبعث على الضحك، أو الابتسام في الأقل، فإنه يلقي ضوءاً كاشفاً على تردي الحياة الاجتماعية والاقتصادية في تلك الأزمنة التي طال مرها واشتدت قسوتها على أبناء هذه الأمة.. شعراء الكدية.. المستجدون على أن هذا الاتجاه أخذ يظهر في الواقع.. منذ العصر العباسي.. مع ظهور من يسمون «شعراء الكدية» هؤلاء الذين كانوا يتكسبون بالشعرو يستجدون. وإذا كان في وصف أحوالهم المتردية ومساكنهم الآيلة إلى السقوط ، أو المتداخلة مع الشارع ما يحمل على العطف عليهم، وتقديم العون والمساعدة لهم، فإنهم كانوا يدركون أن إضفاء طابع كاريكاتوري ضاحك على هذا الوصف، كفيل بإبقاء ذلك الخط الفاصل بينهم وبين الشحاذين العاديين الآخرين، ويبقي لهم تميزهم الذي يرضي غرورهم الكامن ونرجسيتهم الدفينة.. كشعراء. أبو الشمقمق.. نموذج شعراء الكدية ولاشك أن أبا الشمقمق، يجيء في مقدمة هؤلاء، ويصلح نموذجاً عنهم جميعاً فهو يقول: ولقد أهزلت حتى محت الشمس خيالي ولقد أفلست حتى حل أكلي لعيالي من رأى شيئا محالاً فأنا عين المحال(1) أبو الشمقمق.. يصف بيته وها هوذا يصف منزله بأسلوب يقطر مرارة وسخرية وتهكماً: برزت من المنازل والقباب فلم يعسر على أحد حجابي فمنزلي الفضاء وسقف بيتي سماء الله أو قطع السحاب فأنت إذا أردت دخلت بيتي علي مسلماً من غير باب لأني لم أجد مصراع باب يكون من السحاب الى التراب ولا انشق الثرى عن عود تخت أؤمل أن أشد به ثيابي ولاخفت الإباق(*) على عبيدي ولا خفت الهلاك على دوابي (2) الحشرات تهرب من بيته ويذكره الجاحظ في كتابه الكبير «الحيوان» في معرض حديثه عن الحشرات والهوام مستشهداً بالأبيات التي يخاطب بها أبو الشمقمق الحشرات والهوام التي غادرت منزله وتركته وحيدا فيه: ولقد قلت حين أقفر بيتي من جراب الدقيق والفخارة ولقد كان آهلاً غير قفر مخصباً خيره كثير العمارة فأرى الفأر قد تجنبن بيتي عائذات منه بدار الإمارة ودعا بالرحيل ذبَّان بيتي بين مقصوصة الى طيارة وأقام السنور(3) في البيت حولا ما يرى في جوانب البيت فارة ينفض الرأس من شدة الجوع وعيش فيه أذى ومرارة قلت لما رأيته ناكس الرأس كئيباً في الجوف منه حرارة ويك صبرا فأنت من خير سنّور رأته عيناي قط بحارة قال : لاصبر لي وكيف مقامي في بيوت قفر كجوف الحمارة.. الهوامش (1) العقد الفريد- ج2- ص 44 (2) المصدر نفسه- ص 315 (3) السنّور: شبيه القط (*) الإباق: الهروب- من فعل: أبق |
|