تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عادي!!

آراء
الاربعاء 9/8/2006م
د. هيفاء بيطار

لو ندرك الخطر أطلق الذي يكمن في كلمته عادي. لن الأحكام قبل أن أسرد بعض الحوادث والوقائع التي تندرج تحت اسم عادي في مجتمعاتنا , مواقف حياتية تتكرس وتنتشر كالوباء..

القصة الأولى التي أحب أن أسردها بحياد:‏

التقيت بزميلة لي في مكتبة كانت متوترة وتقرّع الشاب الذي يقف خلف آلة التصوير ويبدو مهدوداً من التعب..‏

وقبل أن أسألها مابك? قالت بغضب: الأفندي هنا أخلف بالموعد مرتين وعدني أن ينهي المصغّر, ولم يف بوعده. لم أفهم معنى مُصغر, فاستوضحت الأمر.. قالت وابتسامة سخرية من جهلي تعلو وجهها: ألا تعيشين في هذا الزمن, قلتُ لك مُصغر, أي يتحول الكتاب إلى كتيب مساحته نصف راحة اليد.‏

كانت زميلتي تقوم بتصغير كتاب القومية لابنها طالب البكالوريا!‏

في الحقيقة أحسستُ بصدمة مزدوجة, فمن جهة صعقت أن أساليب الغش في الامتحانات والمُصغرات صارت منتشرة كشيء عادي ولا اعتراض عليه, والسبب الثاني الأكثر ترويعاً أن من يُسهل ويساعد في عملية الغش هي أم!..‏

الأم التي تربي وتزرع الأخلاق والقيم في نفوس أطفالها, وتعلمهم التمييز بين الخير والشر..‏

وكي أكون أمينة في سرد الحادثة, يجب أن أنوه أن هذه الأم تقوم بكل واجباتها الدينية من صوم وصلاة.. الخ لم أستطع السكوت سألتها: كيف تساعدين ابنك على الغش في الامتحان?‏

ردت بسخرية مبطنة: كل الطلاب يسلكون هذا السلوك, كلهم معهم مصغرات وأن لم يجاريهم ابني يصير مظلوماً.‏

أعطاها العامل المُصغر, فدسته في جيب بنطالها وذهبت..‏

الحادثة الثانية التي تندرج تحت مفهوم عادي وطبيعي هي التالية:‏

ذهبتُ مع شلة من زميلاتي لنبارك لابنة صديقة لنا, خُطبت لشاب يعمل موظفاً في المرفأ.‏

وبدت الشابة وأمها مهتاجتين من الفرح, وعرضتا علينا الهدايا الثمينة التي قدمها الخطيب لخطيبته.‏

سألت إحدانا إن كان الخطيب ثرياً, فضحكت زميلتنا وهي تعيد كومة الذهب إلى علبته. لا إنه موظف عادي في المرفأ, لكنه يكسب (براني) حوالي عشرة أضعاف راتبه.‏

براني تعبير صار متداولاً بكثرة, بل صارت اللغة العربية غنية بمفردات جديدة. شطارة. كناية عن السرقة, برّاني, كناية عن الرشوة وأظن أننا نحتاج لقاموس جديد في شرح المفردات الجديدة.‏

الأم وابنتها سعيدتان أن الخطيب مرتش! أي تفاهة أن تسالا عن أخلاقه ونزاهته بل إن صفة النزاهة صارت متطابقة مع صفة أبلة من ينتبه لانعدام الأخلاق في المثل الشعبي: الرجل لايعيبه إلا جيبه! الحادثة الثالثة التي سأرويها بحياد أيضاً هي: تربطني علاقة زمالة مديدة بجارة لي, وطوال عشرين عاماً, وحين التقيها في المناسبات, كان الموضوع الوحيد الذي تحدثني به, بالقهر ذاته والإحساس بالظلم ذاته, هو بيتها الذي ورثته عن والدها والذي أجرته منذ عشرين عاماً لإنسان انتهازي وعدها أن يسلمها البيت حين تحتاجه. عاشت المسكينة في بيت أخيها متحملة تضجر أسرة أخيها من وجودها.. كانت موظفة في البريد, لاتملك سوى راتبها, وقدأخذت عشرة قروض من البنك على راتبها لتدفع للمحامين..‏

وحين صدر القانون الجديد الذي يسمح للمؤجر أن يستعيد بيته على أن يدفع 40% من قيمة العقار للمستأجر, أحست أن الفرج قريب وكانت قد قررت أن تبيع المنزل لأنها لاتملك أن تدفع 40% من سعره للمستأجر!! كم مرة قالت لي وهي تبكي: تصوري الظلم, ألا يكفي أنه احتل بيتي أكثر من ربع قرن, وعليّ أن أدفع له نصف قيمة المنزل تقريباً لأستعيد بيتي!‏

لكن ما جعل تلك المسكينة تنهار أن المحامي طلب إليها أن تدفع 30 ألف ليرة للقاضي كي يسرّع إصدار الحكم!‏

فجنت من الغضب وقالت لماذا.. أي ظلم هذا.‏

فقال لها المحامي: على العكس, احمدي ربك أن الدعوة استقرت عند قاض يأكل.‏

قاض , يأكل تعبير جديد يضاف لقاموس لغة العصر. كان منظر انهيار تلك الانسانة العصامية التي عاشت عمرها في حالة قهر وإحساس بالظلم شديدين, صعب للغاية, كانت تضرب رأسها وصدرها بوحشية وهي تصرخ :الله يلعن هذه العيشة, والله يجب أن يكون متوسط عمر الانسان 500 سنة كي يكسب دعوة في المحكمة. وحين يكسبها يكون إما جثة أو مجنوناً.‏

لكن , تصوري, قاضٍ يأكل, قال المحامي إن حظي ممتاز لأن الدعوة استقرت عند قاض يأكل!!‏

يمكنني سرد عشرات القصص الواقعية التي صرنا ننظر إليها على أنها عادية..‏

هل أبالغ إذا قلتُ أننا نعيش في زمن انهيار الأخلاق.‏

ماذا نقول عن أم جامعية ومثقفة, تقوم هي ذاتها بتقديم المصغرات لابنها, كي يغش في الامتحان, وتبرر عدم قيامها بهذا الفعل أنه سيُظلم?!‏

ماذا أقول عن مئات الشباب الجامعي الذي طالما تحدثت إليهم ويقولون لي والله نحن ندفع رشوة بشرط أن نؤمن لنا الوظيفة!‏

كما لو أن الرشوة صارت قاعدة للتوظيف?!‏

إن عصر العولمة هو عصر التشوش العظيم في الأخلاق, وهو تعبير أطلقه بيير داكو, فقد تشوهت القيم كلها, وصار شعار هذا العصر تكريس الاستمتاع الذي لايكون إلا بالاستهلاك وصار الاستهلاك ثقافة قائمة بحد ذاتها.‏

ويحدد لنا هذا العصر قيمتنا بل هويتنا بمقدار ما نستهلك. فأنت مهم لأنك تستهلك كذا سلعة.‏

ولا أحد يستطيع مقاومة وحش الاستهلاك لا الأهل ولا الأبناء.‏

إن ثقافة الاستهلاك دمّرت الأخلاق, بل جعلت الكثير من الشباب يصابون بالإحباط لعجزهم عن مجاراة انفجار عالم المتع..‏

أي مراهق يقبل اليوم ألا يملك موبايلاً خاصاً به?!‏

إن عصر الاستهلاك يحدد لنا نمط حياتنا, ماذا يجب أن نأكل ونشرب وطعم معجون الأسنان, وأنواع الأجبان والشوكولا,ويحدد لنا كيف يجب أن نستمتع.. لكأن هدف الحياة استمتع طوال الوقت!.‏

وفي اليابان حين لاحظ المسؤولون التربويون ارتفاع ظاهرة الانتحار, لجؤوا لتدريس مادة تعلم حب الحياة واحترامها في المدارس.‏

وأظن أننا بحاجة اسعافية لإعادة الاعتبار للمفاهيم الأخلاقية التي صارت تنقرض وتتشوه, تحت شعار فضفاض اسمه عادي.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية