تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مثالٌ مؤلم للطفيليّ

آراء
الخميس 14-6-2012
  د.جهاد طاهر بكفلوني

قدّم نفسه إلى الحضور تقديماً فهموا من خلاله أنه أفنى عمرهُ في خدمة الكتاب ، مسخِّراً كلّ ما أنعم الله به عليه من ( زينة الحياة الدنيا ) ليكون ( خير جليس) متوفّراً بمبلغٍ زهيدٍ بين أيدي القرّاء على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم الفكريّة ؛ فشكر له الحضور هذه اليد البيضاء المسداة إلى الفكر متمنّين له التوفيق في مهمّته النبيلة .

ثمّ انعطفت العربة انعطافاً حادّاً فراح يبدي امتعاضه من البيروقراطيّة المفرطة التي تضع القيود الثقيلة على حركته فتجعل إيصال الكتاب إلى محبّي القراءة طريقاً مزروعاً بالأشواك ، ولم يفتْه أن يشير إلى أصابعه المدمّاة ليقنع الآخرين بصحّة وجهة نظره.‏

ثمّ سوّلتْ له نفسُه تطوير الهجوم على البيروقراطيّة فحوّله هجوماً على الجهات التي يدخل الإشراف على توزيع الكتاب في صُلب عملها واتّهم هذه الجهات بالفساد ، ونسب إليها الاجتهاد في تعقيد الأمور بدلاً من تبسيطها ، وتفنّنها في ابتكار الأساليب التي تنفّر القارئ من الكتاب بينما يجب أن ينصبّ جهدها على ترغيبه في الكتاب لينصرفَ إليه لا عنهُ ، ورأى أن فسادها جزء من منظومة الفساد الكليّة التي عدّها حجر عثرة تحول دون نهوض الوطن.‏

إلى هذه المرحلة بدا هجومه رغم غلوّه مثيراً للأعصاب لكنّه لم يكن قد وصل إلى مرحلة تمزيق هذه الأعصاب ، ثمّ طلب من أحد القائمين على العمل تفسيراً مقنعاً يقنعه بالإقدام على تسديد المبلغ الذي لم يكنْ إلاّ مبلغاً زهيداً قياساً إلى حجم المبلغ الذي كان مطلوباً منه تسديده لاستيراد كميّة كبيرة من الكتب ، فشرح له ذلك العامل الذي يستوعب عمله جيّداً أنّ ذلك المبلغ يُسدّد كرسمٍ إداريّ تتقاضاه الجهة المسؤولة عن سير الكتاب من المنبع إلى المصبّ كأتعاب خوّلها القانون تقاضيها ؛ وعندما مرّتْ كلمة القانون على سمع صاحبنا انتفختْ أوداجُه حنقاً وصبَّ جام غضبه على القوانين التي عدّها متخلّفة بل رماها بتهمة الخروج عن العصر ونصب مضاربها على مسافات نائية عن التحضّر والتطوّر ، ثمّ هدّد بأنه يهمّ بترك التعامل مع الكتاب واللجوء إلى مهنة أخرى بعيداً عن شجون الكتاب وشؤونِهِ.‏

كان النقاش مع ذلك (( المتحضِّر)) الذي لم يعرف من الحضارة إلاّ اسمها دون معناها عقيماً ومسدوداً في الاتّجاهات كلّها.‏

شرح له أحد الحاضرين أنّ المواطن في الدول المتحضّرة التي بدا صاحبنا مسحوراً بها يقدمُ طوعاً لا كرْهاً على تسديد ما يترتّب عليه من ضرائب ، يسدّدها وكلّه قناعة أنّ ما يسدّده بيمناهُ تتلقّفُه يسراهُ رعاية صحيّةً وضماناً اجتماعيّاً ونظافة شوارع وغير ذلك من خدمات تقدّمها حكومات تلك الدّول إلى مواطنيها حبّاً وكرامة.‏

لكنّ صاحبنا لم يقتنعْ وصحّ فيه قول الشاعر:‏

لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً ولكنْ لا حياةَ لمن تنادي‏

ذلك (( المثقّفُ)) الضخمُ لا يعرفُ أنّ على الدولة وظائف يحتاج أداؤها مبالغَ كبيرة ، كوظيفة حماية حدود الوطن والسهر على أمن مواطنيه والتمثيل الخارجيّ وغير ذلك وتقديم الخدمات للمواطن وإن لم تفعلْ فقدتْ مكانتها وهيبتها في نظره بل فقدتْ معنى وجودها ، لكنّ ثقافته رغم اتّساعها لم تسمع كما يبدو بتلك الوظائف ، أو لم تكنْ قادرة على استيعابِها.‏

وبعد أن أفرغ كلّ ما في جعبته من هجوم على القوانين ، يقابله تغنٍ بالغربِ أفهمَ كلّ من كان حاضراً أنه ليس مستعدّاً لإفادة الوطن بقرشٍ يعزّ عليه أن يفرّ من يده ليسقط في خزينة الدولة ، وراح يشرح للجمع أنّ من حقّه كنز الذهب والفضّة وليس من حقّ الدولة أن تشاركه بجزءٍ ممّا يجني بكدّ يمينه وعرق جبينه.‏

لقد قدّم نفسه – ولم يطلبْ أحد منه ذلك _ إلى الحضور إنساناً لا يعرف الوطنيّة لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ ، إنّه مثال مؤلم للطفيليّ الذي يريد الأخذ ولا يعرف العطاء ، وهو مثالٍ نتمنّى ألاّ نصادفه بكثرةٍ في مجتمعنا لأنه بلا أدنى ريبٍ حجرُ عثرةٍ في طريق نهوض الوطن الذي نتمنّى على الدوام أن نراهُ رافلاً في بُردِ الحضارة والازدهار.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية