تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


علم نفس السرقة الأدبية

ملحق ثقافي
8/9/2009
ترجمة د. علي محمد سليمان _ روس جوسكاليان

تطور البحث في ظاهرة السرقة الأدبية خلال العقدين الماضيين بشكل وضع هذه الظاهرة في سياق معرفة علمية تتجاوز بشكل مضطرد حدود توصيف الملابسات الأخلاقية والحيثيات القانونية لعملية التناص المعقدة التي تتحكم بفعل الكتابة.

وفي الحقيقة كانت التطورات الكبيرة التي حدثت في النظر إلى هذه الظاهرة القديمة الجديدة متزامنة في محطات عدة مع تطورات حدثت في النظر إلى فعل الكتابة ذاته. فمنذ أن غيرت نظرية التناص آليات قراءة وتحليل النص الأدبي، لم تعد حالة التقاطع والتجاور بين النصوص مجرد حدث يكتشفه القارئ أو الناقد بعين متشككة وفاحصة لأخلاقيات الكاتب في تعامله مع ما خارج نصه، بل أصبحت حدثاً جمالياً تفرضه طبيعة الكتابة وشرطاً جوهرياً لوجود النص ذاته. كان هذا أحد الفضاءات المعرفية التي أفسحت المجال واسعاً أمام إعادة النظر في ظاهرة السرقة الأدبية، وكان الجهد النظري الذي تجلى في عمل جوليا كريستيفا حول التناص محطة فارقة في هذا السياق تحولت اليوم إلى نموذج كلاسيكي تسعى المقاربات النظرية المعاصرة إلى تجاوزه.‏‏

‏‏

وفي المشهد الأدبي المعاصر لا تبدو المسألة في واقع الأمر مجرد إشكالية جمالية معزولة عن الأخلاق والقانون. صحيح أن مصطلح السرقة الأدبية قد اكتسب دلالات جديدة ومتعددة وصلت حد الالتباس والغموض ولم يعد بالامكان التعامل مع أي حدث انتحال أو سرقة يقوم بها كاتب ما بمعايير ثابتة ومحددة مسبقاً، إلا أن الأبعاد الأخلاقية والقانونية لعلاقة الكاتب بنصوص غيره ما تزال ملحة وراهنة بسبب التواتر الكثيف لفعل السرقة في الكتابة الأدبية المعاصرة. إن نظرة واحدة إلى الكم الكبير من حالات الانتحال والسرقة الأدبية التي شاعت في العقد الأخير والتي تحولت إلى فضائح وقضايا عامة طالت مجموعة من أكبر وأشهر الأسماء الأدبية تثبت لنا بوضوح أن ظاهرة السرقة الأدبية قد تجاوزت في حضورها وأنماطها ووسائلها إمكانيات الضبط والتحديد والتوصيف التقليدية. ومن هنا نشأ مؤخراً اختصاص علمي تجريبي في مجال علم النفس يعنى بدراسة العوامل والآليات السيكولوجية التي تتحكم بأشكال حضور النصوص في بعضها البعض. وينطلق الاختصاص الجديد من فكرة أن السرقة الأدبية في حالات عديدة هي عملية معقدة وغير مقصودة تنشأ بفعل خصائص معينة في عمل الذاكرة الانسانية.‏‏

بدأت الدراسات السيكولوجية الجديدة تطلق مصطلحاً جديداً على عملية السرقة الأدبية يعبر عن حدث السرقة اللاواعية هو cryptomnesia. ويعبر هذا المصطلح عن خاصية سيكولوجية معقدة تحكم علاقة ذاكرة ومخيلة الكاتب بما يقرأ من نصوص خلال مختلف مراحل حياته. لكن إشكالية هذا المصطلح هي أنه يفتح إمكانية لتبرير السرقة الأدبية على أنها مجرد ظاهرة سيكولوجية غير واعية تعود إلى خصائص خارجة عن إرادة الكاتب. وهنا يطرح السؤال هل يمكن اعتبار حالات السرقة في أعمال كتاب مثل مورين دويد، كريس أندرسون، إليزابيث هاسلبك وغيرهم حالات من الخلل السيكولوجي بدلاً من أن تكون أفعال سرقة متعمدة تقتضي المساءلة القانونية والأخلاقية؟! وهل يمكن بالتالي التساؤل عن إمكانية وجود علاج لهذه الظاهرة السيكولوجية؟!‏‏

لقد ادعى معظم الكتاب الذين اتهموا بالسرقة الأدبية، على الأقل في العقد الأخير في الولايات المتحدة الأمريكية. أن كل ما رصد من انتحال وتوارد أفكار وتشابه نصي وصل إلى حد النسخ الكامل إنما هو تناص غير مقصود وغير واع. وبناء على وجهة علم نفس السرقة الأدبية غير مقصودة أو cryptomnesia، فإن فعل السرقة هنا يحمل تبريره المسبق باعتباره خاصية أصيلة في عمل الذاكرة الإنسانية لا يمكن تجاوزها أو إلغاءها. أليس هذا مأزقاً كبيراً يؤسس لأخلاقيات جديدة في العمل الإبداعي تجعل منه فعلاً فردياً لا يخضع لأي معايير قانونية أو أخلاقية؟! الكتابة فعل فردي بلا شك، لكن المشكلة ليست في فردية العمل بل في خطر أن يتحول هذا العلم الجديد إلى قاعدة نظرية لتأسيس مبررات للسرقة. إن ما يحدث في المخابر النفسية الجديدة في الجامعات الأمريكية اليوم يطرح سؤالاً كبيراً: هل هناك مؤسسات تحاول شرعنة السرقة الأدبية؟!‏‏

لقد نشأت في السنوات الأخيرة بعض من وحدات البحث التجريبية والمختبرات النفسية التي تدرس بشكل تجريبي ظاهرة السرقة الأدبية. وتركز تلك الدراسات والتجارب على البعد السيكولوجي اللاواعي لعملية السرقة الأدبية. إن كل ذلك يضع تلك الظاهرة خارج حدود المسؤولية الأخلاقية والقانونية للفرد الكاتب!! ولعل الخطر في هذا ينبع من أن كل تلك الدراسات والتجارب تجري في مراكز بحوث تنتمي إلى مؤسسات أكاديمية عريقة مما يعطيها مصداقية ومشروعية قد تتحول في المستقبل إلى مشروع قانوني له مؤسساته وأخلاقياته. وتتجلى مشكلة جديدة في علم نفس السرقة الأدبية الجديد هذا في أنه يحاول عن قصد أو عن غير قصد أن يخلط المعايير الأدبية-الجمالية بالمعايير السيكولوجية-التجريبية بأن يجعل من الآليات المعقدة التي تعمل بها الذاكرة البشرية معياراً ومرجعية جمالية ونقدية. من المؤكد أن عملية القراءة النقدية للنص لا تنفصل بشكل قاطع عن العوامل السيكولوجية، لكن لا يمكن للأدب أن يتحول إلى مجرد عينة مختبرية لتطبيق أفكار من خارج النص الأدبي. وفي النهاية إن نزع المسؤولية الأخلاقية عن فعل الكتابة الإبداعية وتحويله إلى مجرد تجربة سيكولوجية غير واعية إنما هو خطر يجب التنبه إليه والتحذير منه..‏‏

عن مجلة نيوز ويك الأمريكية.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية