|
ملحق ثقافي بورخيس «دون تلكؤ» : نعم يا سيدتي . كانت إستيلا كانتو تعني الشيء الكثير للقاص والشاعر الأرجنتيني المولد خورخي لويس بورخيس ، « المولود في بوينس آيريس سنة 1899 من أب كان يعمل محامياً « حيث أهدى إليها أجمل قصصه «الألف» والتي تعني بالعربية «ما هو مرئي»، وإستيلا هذه عدا عن أنها كانت مغنية وفيما بعد كاتبة كانت تعتز بقصة الحب التي ربطتها ببورخيس وعادت إليها بمبلغ قيمته سبعة وعشرون ألفاً وسبعمائة وستون دولاراً ، وهو ثمن مخطوط قصته الأشهر «الألف» التي أهداها إليها مخطوطاً تحتفظ به لنفسها مدى الحياة ، وكان عدد أوراقها سبعة عشر صفحة منقحة بعناية كبيرة بكتابة قزم كما وصف بورخيس ذات يوم حروفه الصغيرة ، ومن وجهة نظر إستيلا لم يكن لقاؤها الأول مع الشاعر لقاء الحب الصاعق إذ أنها في محاولة منها للتقليل من ردة فعلها وصفته وهو في الخامسة والأربعين من عمره بقولها «كان بديناً بطول لابأس به ومتصلباً بوجه شاحب ومكتنز ، بقدمين صغيرتين بصورة لافتة ، وبيد كانت عند مصافحتك لها تبدو دون عظام ، رخوة كما لو أنه ينزعج من اضطراره لتحمل الملامسة التي لا مهرب منها ، وكان في صوته تردد يبدو وكأنه يفتش عن كلماته ويستأذن لقولها « ، أما بورخيس الذي كان يتملى إستيلا رغم ضعف نظره فقد أطراها بقوله « ابتسامة الجيوكوندا وحركات الخيال في لعبة الشطرنج».
استمر الغرام بين بورخيس وإستيلا كانتو عامين كاملين كانا يتمشيان خلالهما في بوينس آيريس في نزهات طويلة ، وذات مرة ترك المدينة دون أن يخبرها فكتب لها ( خشية أو لطفاً بسبب الاقتناع الحزين أنني لم أكن لك جوهرياً سوى إزعاج أو واجب ، وها أنا في مدينة مارديل بلاتا وأنا أذوب شوقاً إليك ) ، ثم كتب لها على بطاقة بريدية ( الخميس في حدود الخامسة أنا في بوينس آيريس سوف أراك هذا المساء ، سوف أراك غداً وأعلم أننا سنكون سعيدين سوياً ، سعيدين ودائخين و وأحياناً أبكمين وبليدين بلادة مجيدة ظافرة ... ويضيف : عندما ستكونين مشغولة بقراءة هذا سأكون في طريقي لإنهاء القصة الطويلة التي وعدتك بها ، الأولى في سلسلة من القصص لك ) ، بعد ذلك سألها بورخيس إن كانت تقبله زوجاً فأجابته بأنها تستطيع تماماً قبول العرض وأضافت : (لكن يا جورجي لا تنس بأني من دعاة برنارد شو فنحن لا يمكن أن نتزوج مالم نتجامع سوياً في البداية ) ثم قالت شارحة : كنت أعلم أنه لن تكون لديه الجرأة أبداً . انتهت هذه العلاقة بعد عامين وتزوج بورخيس من إيلسا استيتي دي ميلان ، والتي منعته من زيارة أمه كما منعت أمه من زيارته ، ونادراً ما كانت تقرأ له ، وكانت ترفض الاستماع إلى أحلامه التي يسردها كل صباح ، وبالمقابل كانت تستعذب كل ما يناله بورخيس من تكريم ووجاهة بينما كان من جانبه يزدري كل تكريم ، وذات يوم دعي إلى هارفارد لإلقاء محاضرة فأصرت إلسا بإلحاح كي يطالب بتعويضات أكبر وكي يؤمنوا لهما مسكناً أفخم. وذات ليلة رآه أحد الأساتذة امام محل إقامتهما بالخف والبيجاما فشرح له ( زوجتي طردتني خارج الغرفة ) ، وحين استفسر الأستاذ من إلسا عن سبب فعلتها أجابته ( لست أنت المضطر لتراه تحت اللحاف) ، هجر بورخيس إلسا بعد أربعة أعوام من الزواج وكرر ما كان يقوله دائماً بأنه لم يكتب له بأن يكون سعيداً إلا أنه وجد في الأدب سلواناً له لم يكن يكفيه ولذلك وقع في الغرام أكثر من مرة ، وكان ينظر بعين الحسد للعلاقات العاطفية الأدبية التي التقى بها في قراءاته أمثال : الجندي البريطاني جون هولدن وأميرة والعذريان سيفور وبرينهليد وستيفنس وفاني ... . ورغم أنه كان يؤمن إيماناً أدبياً بمقولة ( سر النساء والقدر البطولي للرجال ) إلا أنه عجز عن إعادة خلق ذلك السر على الورق . هل يعود ذلك إلى افتقاده للحب الذي كان ينشده لعلاقاته العاطفية المتعددة أم أن السبب يكمن في شخصية بورخيس السوداوية والتي كادت أن تودي بحياته أكثر من مرة ؟ لم يستطع بورخيس خلق شخصية نسائية أدبية في أعماله ، ونساءه هن بمجملهن معوقات للحبكة القصصية ، أما قصة الدخيلة فالمرأة المشتركة بين الأخوين ليست إلا شيئا يجب التخلص منه بالقتل وذلك من أجل البقاء على الإخلاص المتبادل بين المتنافسين . تبدأ القصة بفعل يقولون ، وهذه البداية تعني أن القصة دارت احداثها في زمن لم يشأ بورخيس تحديده لكنه يحدد الزمن الذي رويت فيه هذه القصة والمناسبة : كان ذلك خلال سهرة مأتم ، الأخ الأكبر كريستيان ، رواها إدواردو في نحو عام 1890 أي قبل ولادة بورخيس بتسعة أعوام ، والأخير سمعها فيما بعد من سانتياغو دابوفا كما سمعها من آخرين ، ربما أراد بورخيس الإيحاء لقرائه بأن القصة حدثت في زمن مغرق في القدم ومنذ الصفحة الأولى سيتساءل القارئ إن كان ما يقرأه يتعلق بقصة قابيل وهابيل فثمة كتاب مقدس ضاع وأصحابه رحلوا وزالت آثارهم من الوجود وبقي منهم أخوان سارقان غشاشان سكيران وهما فوق كل هذا بخيلان إلا إذا دفعهما الشرب واللعب إلى السخاء ، وهذان الأخوان المتهتكان كانا في الوقت ذاته متفقين بطريقة غريبة فلا يتحاسدان ولا يؤذي أحدهما الآخر أو يخالفه في رأيه ، وهما يتاجران بكل شيء ، بالحيوانات والجلود والحبوب ، وذات يوم أتى كريستيان إلى البيت بامرأة اكتسبها كخادمة ، وكان يغمرها بالحلي البشعة والرخيصة ويعرضها في الحفلات الراقصة فتبدو رغم الأنوار المبهرة ذات سحنة كاملة وعينين لوزيتين ، وذات مرة قال كريستيان لإدواردو : إني ذاهب إلى حفلة عند فارياس أترك لك جوليانا ، إذا كنت تريدها فبإمكانك أخذها ، بعد ذلك تقاسم الأخوان جوليانا . يتعرض بورخيس في قصة الدخيلة إلى توتر العلاقة بين الأخوين بعد قدوم هذه المرأة حيث أصبحا سريعي الغضب حسودين وصارا يبحثان عن أسباب للمخاصمة ويجدانها دائماً رغم أنهما كانا يعتبرانها مجرد متاع وهي تهتم بهما بخضوع حيواني ، لكنها لم تكن تخفي ميلها إلى الأخ الأصغر ، وهذا الخضوع لم يمنعهما من بيعها إلى صاحب ماخور هدفهما من ذلك التخلص من امرأة سببت غيرة وحسداً بين أخوين يحب كل منهما الآخر حباً جماً . والمفارقة التي يوردها بورخيس في هذه القصة هي أن بيع جوليانا لم يكن حلاً مثالياً إذ صار الأخوان يترددان على الماخور ليلتقيا بعشيقتهما وكان كل منهما يرى فرس الآخر امام باب الماخور ، وذات مرة قال كريستيان لإدواردو وهما على باب المبغى ( على هذا المنوال ستتعب جيادنا فمن الأفضل أن تكون بالقرب منا ) ، وحين صارت جوليانا في البيت عادت من جديد حياتهما السابقة ، لقد فشل حل الخيانة فكلاهما كان قد رضخ لتجربة المخادعة ، تجربة قايين راودتهما لكنهما لم يكرراها أذ فضلا أن يصبا غيظهما على الغرباء ، على مجهول ، على فرسهما والكلاب وعلى جوليانا سبب الخلاف ، أخيراً يقتل إدواردو الفتاة ويخبر أخاه فيتركانها في الفلاة وجبة جيدة للنسور . ثم يختم بورخيس القصة بقوله ( ثمة رابط أصبح يجمعهما الإمرأة التي ضحيا بها بشكل مؤسف والتي يترتب عليهما أن ينسياها) . وفي هذا إشارة واضحة إلى أن المرأة التي فرقتهما في الحياة زاد موتها متانة علاقتهما ببعضهما وكأنه بذلك يردد شطراً من بيت شعر يقول ( ما للنساء غير القبور حصون ) . ثمة قصص كتبها بورخيس لا يختلف فيها موقفه من المرأة كثيراً عن موقفه في قصة الدخيلة لكن من أغرب ما تخيل بورخيس من نساء كانت أولريكا في القصة التي لا عنوان لها وهي طيف أكثر مما هي امرأة حقيقية ، فتلك الطالبة الشابة النرويجية تسلم نفسها للأستاذ الكهل الكولومبي جافييه أوتا رولا الذي تسميه سيفور والذي من جانبه يسميها برينهيلد حيث تبدو في البداية راضية موافقة ومن بعد ذلك باردة ، فيقول لها أوتارولا ( يا برينهيلد أنت تسيرين كما لو كنت تريدين أن يكون بيننا سيف في السرير ) ، ومع نهاية القصة تجيبه : ( لم يكن من سيف يفصل بيننا نحن الإثنين بل الزمن كان يتسرب كتسرب الرمل ) . أخيراً سيجد القارئ لبعض قصص بورخيس أن أبا الهول الأرجنتيني كما أسماه النقاد ، لم تنج أعماله الإبداعية من شعور بالخيبة في علاقته مع المرأة وكأنه يتفق مع تولستوي الذي قال (الرجل الذي لم يحصل على السعادة مع المرأة يقف منها موقفاً عدائياً ) . |
|