|
ملحق ثقافي ولم يكن الهجوم على سقراط، لأنه شخصية تاريخية، بل لكونه ظاهرة تجسد كل ملامح الفلسفة التقليدية ونزعتها العقلية: «إن السقراطية تشير إلى دوافع ونزعات معينة، سميت بعد سقراط، لأنه كان أعظم ممثل لها». في القسم الثاني من «أفول الأصنام» الذي يحمل عنوان «مشكلة سقراط» يتحدث نيتشه عن الانحلال السقراطي باعتباره تضخيماً للملكة العقلية، ويجد أن سقراط قد حول العقل إلى طاغية يقمع كل الغرائز، وقدمه للإغريق كدواء للحفاظ على الذات. إن الانحلال الحقيقي – في نظر نيتشه – ليس هو فوضى الغرائز، بل هو طغيان العقل، ويرى أن هناك صيغة في مواجهة ذلك الانحلال وهي «أن السعادة تساوي الغريزة، طالما أن الحياة صاعدة».
في المقابل، يعلي نيتشه من شأن غوته ونابليون وهيراقليطس، يقول: «هذا هو سبب كبريائي: إنني أنتسب إلى العظماء.. إنني أحيا بكل الانفعالات العظيمة التي عاشها زرادشت وموسى وعيسى وأفلاطون وبروتوس واسبينوزا وميرابو..». ثم يتابع: «عندما أتكلم عن أفلاطون وباسكال واسبينوزا وغوته، أعرف أن دماءهم تجري في عروقي.. إن أجدادي هم: هيراقليطس وأمباذوقليس واسبينوزا وغوته». الإنسان لا يستطيع أن يهرب من العقل، وكل الفلاسفة العقليين وكل مبادئ فكرهم: الشيء والأنا والجوهر والوجود والغائية.. ليست سوى أوهام يختلقها العقل ويسقطها على العالم من أجل فهمه. هكذا ينظر نيتشه إلى العقل الطاغي، ويحاربه بكل قوته، بهدف إنزاله عن عرشه. يقول كارل ياسبرز عن نيتشه: «لقد تشكك نيتشه وكيركيغارد في العقل من أعماق الوجود الإنساني، ولم يكن هذا الشك مجرد عداء للعقل، ولكنهما، بالأحرى، كانا ينشدان شكلاً ملائماً من العقلانية.. كانا يكافحان من أجل الوصول إلى الحقيقة». يرفض نيتشه كل القيم الأخلاقية السائدة، التي عمل الفلاسفة على صياغتها وترتيبها وزخرفتها عبر تاريخ الفلسفة الطويل والمضني. يهاجم نيتشه الأخلاق الإغريقية منذ أفلاطون وما بعده، ويعتبرها مرضاً، ويسخر من السقراطية التي تساوي ما بين العقل والفضيلة والسعادة. يشن حرباً على الأخلاق الأبيقورية والرواقية التي تقوم على مبدأ العيش وفق الطبيعة. العالم في مظاهره كلها، ليس إلا تجلٍ لإرادة القوة، لذلك كان نيتشه يحاول تأسيس أخلاق جديدة على مبدأ القوة. وإرادة القوة هي الحقيقة النهائية، التي يمكننا أن ننفذ إليها، وهي الجوهر الداخلي للوجود. ورغم مهاجمته العنيفة للعقل الطاغي، إلا أن نيتشه يمجد القوة العقلية أكثر من القوة المادية: «إنني لا أتحدث إلى الضعفاء الذين يريدون أن يطيعوا والذين يعتنقون العبودية بحماس شديد في كل مكان. لقد وجدت القوة حيث لا ينشدها أحد. إن الرجل القوي هو الرجل اللطيف الذي ليس لديه أدنى رغبة في أن يسيطر». القوي جداً إذاً، هو الذي يصل في زهده إلى آفاق عالية، إلى الأوج. في كتابه (العلم المرح) يحذر نيتشه أي أحد من أن يسير على خطاه، ويتساءل: «في أي شيء تعتقد؟ أعتقد أنه يجب علينا أن نزن جميع الأشياء من جديد». سعى نيتشه إلى استئصال كل مفاهيم الميتافيزيقا: العقل، الوجود، الذات، الجوهر.. ويرى أن مفهوم الميتافيزيقا عن العقل وتمييزها بين عالم حقيقي وعالم ظاهر هما صنمان من أصنام الفلسفة. وما كان منه إلى أن حمل مطرقته الثقيلة وهوى بها على تلك الأصنام. لقد أضاف إلى كتابه (أفول الأصنام) عنواناً فرعياً هو (كيف يتفلسف الإنسان بالمطرقة)، قال في مقدمته: «إن الحفاظ على البهجة في غمرة مسألة كئيبة، ليس عملاً هيناً، وما الذي نحتاجه أكثر من البهجة؟». ويغوص عميقاً في إعادة تقييم كل القيم، ظناً منه أن هذا الأمر سيحقق بهجة الحياة. فلسفة نيتشه هي فلسفة العقل الحرّ، المنعتق بامتياز، فلسفة مؤسسة على قلب كلّ القيم أو تحريرها من كلّ قيود المعايير الأخلاقية والمعرفية السائدة. وباختصار، هي فلسفة التخلص من كل الإرث الثقيل للماضي بقسوة وعنف. ويخاطب نيتشه الذين يعول عليهم في تغيير العالم: «كونوا قساةً أشدّاء». يدعو نيتشه إلى تحطيم (الأخلاق العامة) ويسميها أخلاقاً منحطة، لأنها – ورغم تاريخها الطويل – لم توصل الإنسان إلى الخير الأمثل، ولم ترفع من منزلته، لأنها أخلاق مثالية، وليست عقلانية، ومصير متبعها التحول إلى عبد ضعيف. تأثر نيتشه بالفيلسوف شوبنهور، واعتبره معلمه الأصيل، وأخذ عنه مفهوم الإرادة، وربما أيضاً ورث عنه تشاؤمه من عالم الإنسان، ونقمته عليه. إن فلسفة شوبنهور، هي فلسفة إنسانية – إنسانية إلى أبعد حد – كما قال نيتشه. تتجلى فلسفة شوبنهور بقوة في كتابه (العالم كإرادة وتمثل) الصادر عام 1818، في تلك الفترة التي هزم فيها نابليون، وتم القضاء على الثورة الفرنسية. كان شوبنهور يرى الإرادة الجديدة ممثلة في القائد الفرنسي نابليون. لقد أعلن شوبنهور أن فلسفته هي فلسفة الإنسان بكل عذاباته وآلامه وواقعيته ومثاليته، لذلك فقد اكتسبت بعداً إنسانياً عميقاً، وحجزت لنفسها موقعاً مميزاً بين الفلسفات في القرن التاسع عشر، وربما في تاريخ الفلسفة كلها. يقول شوبنهور: «يولد الناس أخياراً أو أشراراً، كما يولد الحمل وديعاً، والنمر مفترساً. وليس لعلم الأخلاق إلا أن يصف سيرة الناس وعاداتهم كما يصف التاريخ الطبيعي حياة الحيوان». تأثر شوبنهور بالفلسفات الهندية القديمة، وخاصة البوذية. واقتنع بوصول الإنسان إلى النرفانا عن طريق الفضيلة والزهد وإنكار الفردية. بالإضافة إلى ذلك فقد تأثر بالرواقية والأبيقورية. صنفت فلسفة الأخلاق عند شوبنهور ضمن مذهب العاطفة، الذي كان رائده جان جاك روسو، وآدم سميث. والتعاطف عند سميث هو الميل الطبيعي في مشاركتنا الآخرين أفراحهم وأتراحهم: «لقد جعلتنا الطبيعة متضامنين مع الآخرين، نشعر بشعورهم ونتألم لآلامهم ونشاركهم عواطفهم وأحاسيسهم». وأعلن سميث أن المشاركة العاطفية وحدها كافية لإشادة مسرح الأخلاق ووجودها لا يحتاج إلى دليل أو برهان: «من الطبيعي أن يتألم المرء لآلام الآخرين، ولأن تكرار هذا الحادث يبطل الحاجة إلى البرهان على وجود هذا التعاطف لدى الناس». إن وراء كل عمل أخلاقي – عند شوبنهور – هو شعور الاتحاد مع المتألمين، الذي يثير فينا عاطفة الرحمة التي هي أساس الأخلاق. وشعور الاتحاد هذا منشؤه أننا جزء من الكل الإنساني، أو كما يقول شوبنهور: «أنت هو ذاك». يقوم مبدأ الأخلاق عند شوبنهور على فكرة العدالة. إن الشر هو الشعور بالفردية، والإنسان الخيّر هو الذي يقضي على مبدأ الفردية، ويقتنع أنه واحد من المجموع الإنساني، ويعمل لخيره. وبذلك يكون قد اخترق حجاب المايا أو الوهم، وأدرك أن آلامه هي آلام الآخرين نفسها، وأن سعادته هي سعادة الآخرين، ومن دونهم لا يمكن له أن يكون سعيداً. وذلك كله نابع من مفهوم الإرادة الشوبنهوري، تلك الإرادة التي توجد عند الجميع على السواء، وهذا يعود بنا إلى مفهوم التعاطف عند شوبنهور. إن الإنسان لا يمكنه أن ينعم بالأخلاق إلا إذا ساعد كل من يريد المساعدة وامتنع عن إيذاء أي كائن حي، ألم يقل بوذا – وهو أحد معلمي شوبنهور الكبار -: «حتى لو تألمت قطرة مرتعشة من المطر، فإنني أتألم»؟ هذا تقديس للحياة حتى أقصاها. الفردية وهم وخداع، ولا يمكن القضاء عليها، إلا إذا اقتنعنا بأن الجنس البشري وحدة متكاملة، ومن هنا تنبع الفضيلة ومحبة الإنسانية، ومن هنا يستولي إحساس الشفقة والتعاطف على قلوبنا وعقولنا. إرادة الحياة عند الإنسان هي ذاتها عند أي مخلوق. الحب إذاً هو الشعور بوحدة الوجود، التي تخلصنا من القلق والعذاب، وهكذا ينبع الخير. بالإضافة إلى ذلك، فإن المشكلة الخلقية عند شوبنهور، هي كيفية الخلاص من هذا العالم المليء بالآلام والشر والمعاناة. فالإرادة هي شريرة في أساسها وهي مصدر المعاناة. العالم في نظر شوبنهور، مجرد ظاهرة وهمية لإرادة أولية، وهذه الإرادة تتصارع على الدوام من أجل البقاء، وهذا مصدر الآلام الدائم. الشر هو في تأكيد إرادة الحياة، وللخلاص من هذا الشر، فلا بد من إنكار إرادة الحياة، وممارسة التقشف والزهد، وفي هذا يكمن الخلاص. وإذا أردنا السعادة فعلينا تدمير وإفناء الإرادة. يقول رايت: «بنى شوبنهور تشاؤمه على تحليله لطبيعة الرغبة في علاقتها مع السعادة، وعلى بعض مشاهدات ودلالات تجريبية؛ فالرغبة تنشأ فقط عندما يريد البعض شيئاً، أو تنجم عن نقص أو حاجة، ولهذا فهم يشعرون ببعض الألم، ولو أرضيت الرغبة أو أشبعت فسوف يشعر المرء بالملل والضجر. وبالجملة، ليس هناك شيء إيجابي بشأن المتعة أو السعادة، إذ إن كل متعة مجرد حالة سلبية». يرى شوبنهور أننا لا نحس بالنعمة أو السعادة، إلا إذا حرمنا منها؛ فالسعادة حالة سلبية، أما الحالة الإيجابية الوحيدة في العالم فهي الألم. الألم والسأم يتعاقبان على إرادة الإنسان إلى ما لا نهاية. إن كل إشباع لرغبة من رغبات الإنسان هو شيء سلبي بطبيعته. الألم هو دافع الحياة الأساسي وحقيقتها، واللذة ليست سوى وقف سلبي للألم. السعادة وهم، ذلك لأن الوجود شر محض، ومصدر هذا الوجود هو الإرادة، التي هي جوهر الوجود، وفي النهاية نصل إلى أن السعادة مستحيلة في هذا العالم الشرير: «العالم لا معنى له، وكل وجود ألم». وإمعاناً في رفض الوجود بكليته، عاد شوبنهور إلى أفكار بوذا، بأن الوجود مليء بالآلام، وأن لا سبيل إلى الخلاص إلا بالتخلي عن إرادة التناسل. حذفت المراجع لضرورة النشر |
|