تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الشهيد البوطي وكلمة الحق التي تركها بيننا

شؤون سياسية
السبت 30-3-2013
عبد الرحمن غنيم

إذا كنا أوفياءَ لروح شيخنا الشهيد الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي, فإنّ هذا الوفاء يتطلب أوّل ما يتطلب أن نعرف ما هي كلمة الحق التي ألقاها بيننا، فأثارت ذعر أعدائنا وجعلتهم يتخذون قرار تصفيته بتلك الطريقة المأساوية التي شاهدناها.

دعونا نقول أولاً بأن مَن اغتالوا الشيخ البوطي وسط تلامذته النجب كانوا يضعون الشيخ الشهيد تحت منظار ملاحقتهم منذ أمدٍ ليس بالقليل. لكنهم لم يتخذوا قرار الاغتيال إلا في اللحظة التي شعروا فيها بأنّ كلمته صارت تشكل خطراً داهماً على مخططهم العدواني، فقرروا إزاحته قبل أن تتجذّر كلمته في الأرض وتسهم في قلب حساباتهم على رؤوسهم.‏

لو أنّ قرار اغتياله كان مصدره الأساس عصابة صلفية ضالة محلية، أو عصابة صلفية ضالة من غريب الطير الذي عرفته سورية في هذه الأيام، دون وجود جهة أشدّ مكراً وراء هذه العصابة أو تلك، لجاء هذا الاغتيال غالباً مختلفاً في المكان والزمان، وربما أيضاً في الأسلوب.‏

بمناسبة واقعة الاغتيال، أعاد موقع « إسلام تايمز» التذكير بمعلومات كشفها الإعلامي اللبناني خضر عواركة منذ قرابة سنة ونصف في حديث له على قناة NBN قال فيها إن السلطات السورية أحبطت في ذلك الحين مخططاً لاغتيال علماء سوريين في مقدمتهم المفتي حسون والشيخ البوطي. وقد أشار آنذاك الى دور قطر بتجنيد أحد أفراد قبيلة العكيدات الذي يزور الدوحة من حين الى آخر ويقيم علاقات تجارية هناك بهدف تأمين عصابة تتمكن من اغتيال علماء وشخصيات دينية بهدف اتهام السلطات السورية باغتيالهم. وتحدث عن وجود مخطط قطري - إسرائيلي في هذا المنحى، وعن دور للمخابرات الإسرائيلية.‏

لعل هذه المعلومات تفيدنا فقط في بيان نقطة واحدة، وهي أن الشيخ الشهيد كان موضوعاً على قائمة التعقب من قبل الموساد منذ سنة ونصف السنة من الزمن على الأقل. لكننا لا نحتاج حتى الى هذه المعلومات لنصل الى هذا الاستنتاج. فما حدث بالفعل يكشف عن خلفياته.‏

لو أن ما حدث كانت تقف وراءه عصابة ضالة صلفية بمعزل عن وجود دور لمخابرات خارجية تصدر اليها التعليمات، فإن ما هو متوقع أن تكون العصابة عارفة مثلما يعرف كل الناس أن الشيخ الشهيد يؤمُّ المصلين ويلقي خطبة الجمعة في جامع بني أمية الكبير فيتم استهدافه هناك أو خلال انتقاله من منزله الى المسجد أو بالعكس. أما أن تعرف عن أمر المحاضرات التي يلقيها في جامع الإيمان يومي الثلاثاء والخميس من كل أسبوع بشكل منتظم، وأن تستهدفه مع تلاميذه، فتلك مسألة تستوجب الوقوف عندها بتمعن. إن التجربة الواقعية تقول لنا بأن العديد من الشيوخ وأئمة المساجد قد جرى اغتيالهم بالفعل ولكن في عمليات استهدفتهم أثناء انتقالهم من بيوتهم الى المساجد التي يعملون فيها، وآخر واقعة من هذا النوع حصلت قبل واقعة اغتيال الشهيد البوطي وتلاميذه بيومين حين اغتيل إمام الجامع المحمدي أثناء انتقاله في سيارته من منزله في الزاهرة الى المسجد في المزة. ومن المؤكد أن الشيخ البوطي رحمه الله لم يكن يستقل سيارة مصفحة، أو يرافقه موكب للحماية، وحكمه حكم مثله من الشيوخ الذين تعرّضوا للاغتيال. ولو كان مستهدفاً وحده، لكان بوسع الإرهابي الصلفي أن يغتاله أثناء حضوره الى المسجد أو مغادرته. فلماذا اختاروا ذلك الأسلوب الدموي الانتحاري الذي كانت حصيلته استشهاد قرابة الخمسين وجرح أربعة وثمانين ؟.‏

إنّ جريمة اغتيال الشيخ الشهيد البوطي في الزمان الذي حدثت فيه، وفي المكان الذي وقعت فيه، وبالطريقة الدموية التي نفذت بها، لا يمكن إلا أن ندرجها عملياً ضمن سلسلة العمليات التي تشير كل المعطيات الى وقوف الموساد الصهيوني وراءها. ومنفذ العملية، أياً كانت هويّته، إنما هو عميل للموساد، نفّذ أمراً صدر إليه من الموساد سواء علم بذلك أو لم يعلم. ففي أحسن الحالات هو واحد ممّن حقت عليهم الضلالة ويعتقدون أنهم مهتدون.‏

لقد كان الشيخ البوطي موضوعاً - كما أسلفنا - على قائمة التعقب والرصد منذ سنة ونصف السنة على الأقل. ومن المرجح أن تعاوناً بين المخابرات القطرية والتركية والإسرائيلية كان وراء جمع المعلومات التي تتراكم لدى الموساد بشكل خاص عنه. لكن الهدف من عملية التعقب يمكن أن يختلف في ضوء تطورات الوقائع وسلوك الشخص المستهدف. ولقد كشف الشيخ الشهيد في حديث له سجل قبل استشهاده بساعات قليلة لصالح تلفزيون « نور الشام « أن محاولات بذلت لإغوائه من أجل مغادرة القطر مثلما جرى إغواء آخرين، ولكن الله عزّ وجلّ صانه من الوقوع في هذه الغواية. إلا أن واقعة اغتياله، وبالطريقة التي نفذت بها، لا تعني فقط أن المتآمرين يئسوا من التأثير عليه، ولكنها تعني أنهم باتوا يرون فيه خطراً عليهم. فلماذا ؟.‏

هذا هو السؤال الذي يستوجب الوقوف عنده بتمعن. فالشيخ الشهيد لم يستهدف فقط لأنه اختار الصمود في وطنه ومع شعب وطنه، ولكنه استهدف لأنه كشف عن كلمة الحق التي يخشى المجرمون منها. ولعل الدليل الواضح الصريح على ذلك أنه لم يستهدف بمفرده بل استهدف مع تلاميذه الذين هم من أئمة المساجد في العاصمة وريفها وليسوا مجردّ طلاب علم مبتدئين. لقد كان بوسع المجرم أن يغتال الشيخ منفرداً أو أن يحصر الأذى الناجم عن اغتياله في أقل عدد ممكن، لكن جريمة اغتياله شملت استشهاد قرابة الخمسين وجرح أربعة وثمانين من تلاميذه أو من مواطنين كانوا يتأهبون لأداء صلاة العشاء. فلماذا فعل ذلك؟.‏

لقد فعل ذلك لأن من أصدر أمر العملية وخطط لها استهدف التلاميذ الدعاة مع شيخهم لعله بذلك يقتل دعوة الشيخ ويقبرها في مهدها. فما هي كلمة الحق التي أرادوا تطويقها؟.‏

في مقال لنا بعنوان «الجهاد الآن فرض عين فهي حرب لا أزمة» نشر في عدد جريدة الثورة يوم 16 آذار 2013، كنا قد انطلقنا من التنويه بما أعلنه الشيخ الشهيد في خطبة الجمعة 8 آذار 2013 حول تكييف حقيقة الحرب التي تتعرض لها سورية، وعن كون المشاركة الشعبية الشاملة في التصدّي لها باتت فرض عين لا فرض كفاية فقط، ومن بيان هيئة الإفتاء الأعلى يوم 10 آذار بهذا الاتجاه، لنؤكد على متطلبات الموقف في ضوء حقيقة أن ما تواجهه سورية منذ عامين « حرب لا أزمة»، وأن مقتضيات التعامل مع الحرب هي غير مقتضيات التعامل مع الأزمة.‏

إن هذه المقولة، مقولة « الحرب» في توصيف ما يحدث، هي التي أثارت حنق الأطراف المعادية التي تدير حرباً دولية شاملة ولكن بأسلوب «الحرب غير المباشرة» على سورية, فأرادت تطويق هذه الفكرة أو كلمة الحق قبل أن تنتشر، وقبل أن تفرض نفسها على المواقف والسياسات والرؤى على جميع المستويات. ومن هنا أصدر المتآمرون الذين يشنون علينا هذه الحرب الأمر لعملائهم لتنفيذ العمل الإجرامي الجبان في جامع الإيمان يوم 21 آذار، لعلهم بهذا الأسلوب يتداركون انتشار الوعي بهذه الحقيقة ويتخلصون من أبرز الدعاة لها. ولأن هذا هو الهدف وجدناهم يستهدفون معه تلاميذه من الدعاة، ظانين أنهم بهذا العمل يحولون دون انتشار كلمة الصدق التي أطلقها الشيخ الشهيد ويحولون دون تجذرها في أنحاء البلاد.‏

لكنّ دهاقنة الموساد وشركاءهم وعملاءهم لم يضعوا في حسبانهم الحقيقة القائلة بأن استهداف الشيخ الشهيد وتلاميذه الدعاة سيؤدّي بشكل تلقائي إلى ظهور جيش من الدعاة الذين يتلقفون كلمته ورؤيته وفتواه ليبشروا بها بين الناس. فإذا كان صدى كلمة الشيخ البوطي ورؤيته قد وصل الى عدد محدود من الناس قبل استشهاده فإنه سيصل الى أعداد أكبر بكثير داخل القطر وخارجه بعد استشهاده. وعلى إعلامنا أن يقدم للناس كامل مقولات الشيخ الشهيد التي يبيّن فيها أبعاد رؤيته وخاصة ابتداء من خطبته ليوم 8 آذار وحتى استشهاده يوم 21 آذار، ذلك أن هذه المقولات جميعاً تخدم كلمة الحق أو التصور الحق أو الفهم الحق الذي توصل إليه وسعى لإبلاغه لنا جميعاً، واجتهد في إبلاغه وقدّم حياته ثمناً لهذا الجهد أو الجهاد.‏

إن الناس الذين يتساءلون الآن « لماذا اغتالوه ؟ «، يهمهم أن يعرفوا الآن الجواب على هذا السؤال. والجواب ببساطة أن الشيخ قال لهم أن ما يحدث في سوريا منذ عامين هو « حرب « كونية تشن على سوريا. وما قاله كان كلمة الحق التي جعلت أوصال المتآمرين ترتجف وجعلتهم يقررون الإجهاز عليه وعلى تلاميذه الدعاة، بمثل تلك الطريقة الوحشية التي لم يعرف التاريخ لها مثيلاً.‏

إنّ جامع الإيمان الذي جعلوا منه مسرحاً لجريمتهم النكراء لم يعد اليوم جامع الإيمان فقط، بل جامع الوعي المقترن بالإيمان. ولقد كنا بحاجة ماسة الى مثل هذا الوعي المقترن بالإيمان.‏

وإذا كان الشيخ الشهيد قد قال في آخر ساعات حياته الدنيا أنه ليس رجل سياسة، فإننا نقول بأن مقولة «حرب وليس أزمة» هي مقولة سياسية مركزية بامتياز، لها أبعادها السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية مثلما لها أبعادها الدينية. فإذا كان الشيخ الشهيد قد تعامل مع بعدها الفقهي الديني وقال بأن الجهاد أو مساندة الجيش في تصديه للمعتدين هو « فرض عَيْن»، فإن على المختصين في الجوانب الأخرى أن يتعاملوا مع الحرب على هذا الأساس، وأن ندرك جميعاً بأنه حين تكون هناك حرب، فإن المنطق يفترض اتحاد الجميع في مواجهة القوى المعادية، وأن كل من يقف مع القوى المعادية ضدّ سورية - أياً كانت هويته الأصلية أو حجته - فهو عدو.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية