|
دراسات أما اليوم فإن كيسنجر يبدو محبطاً لأن هذا « الأمل « الذي حلم به وعاش بانتظاره لم يتحقق , ولا يبدو أنه سيتحقق !! كان كيسنجر في ذلك الحين يبدو واثقاً تماماً أنه بفضل « القوة الوحيدة العظمى في العالم « , وبفضل تحكم اليهود الصهاينة بقرارها , فإن رحى الحرب العالمية الثالثة التي تدار بأسلوب « الخطوة خطوة « – على غرار دبلوماسيته الشهيرة – ستصل الى غايتها التي حدّدها اليهود الصهاينة لها . لقد بدا كيسنجر آنذاك واثقاً من أن الطاحونة التي تدار من واشنطن , ولا نقول تديرها واشنطن وحدها , ستجرفُ في طريقها العرب متى تمكنت من أخذ سورية , ثم تطيح بالإيرانيين , ولن يجرؤ على اعتراض سبيلها حتى روسيا والصين . بل إن روسيا والصين – وفق ادّعائه آنذاك – ستسحقان إذا رفعتا رأسيهما . ووفق الخطة التي تحدث عنها كيسنجر آنذاك بلا حرج , فإنه بعد الحرب التي بدأت عام 2011 على سورية هناك حرب أخرى يسحق فيها العرب للمرة الثانية , حين تخرج إسرائيل لتضربهم بقسوة وبكل أنواع الأسلحة في إشارة الى ما تمتلك من أسلحة الدمار الشامل . الآن , تغيّرت لغة كيسنجر , وتبدّلت لهجته . وما كانت حرباً طاحنة متدحرجة يبشر بها وقد تملكه الفرح , تحوّلت الى أزمات تحتاج الى حلول !! . في قمّة مجموعة العشرين الأخيرة وقف باراك أوباما ليتحدث عن الولايات المتحدة باعتبارها « القوة العظمى الوحيدة في العالم « . بعده بأسابيع قليلة خرج كيسنجر ليقول لمجلة دير شبيغل الألمانية بأن على أمريكا ألا تفرض إملاءاتها على العالم , وألا تعتقد بذلك !! . ما الذي حدث وجعل كيسنجر ينفس اليافوخ الأميركي من وهم « القوة العظمى الوحيدة « الذي كان هو نفسه من النافخين فيه ؟ . ما حدث هو أن الحرب على سورية , وكانت وفق رواية كيسنجر خاتمة سلسلة الحروب على العرب , لم تنجح , وأن روسيا والصين لم ترتعبا من تهديدات كيسنجر وتقفا متفرجتين سلبيتين , ليتكرر في سورية ما حدث في ليبيا , وأن إيران لم ترضخ للضغوط والتهديدات الأمريكية , وأن هناك في الإدارة الأمريكية من أدرك في لحظة معينة أن الانجراف الى حرب عالمية نووية كبرى تدمّر الجميع من أجل عيون إسرائيل ليس خيار العقلاء , وإنما هو خيار المجانين الحاقدين على البشرية . لعلنا نستطيع أن نفترض أيضاً بأن الحاقدين على البشرية أدركوا في لحظة ما أن التطورات الخطيرة في العالم من شأنها أن تجعل إسرائيل تطير من العالم . فبدون تقويض الجيش العربي السوري ومنظوماته الصاروخية , وبدون تقويض المقاومتين اللبنانية والفلسطينية , وبدون تحييد قدرات إيران العسكرية , لن يكون بوسع إسرائيل , لا أن تضرب وتهرب , ولا أن تضرب وتسلب , دون أن يترتب عليها أن تُضرب بعنف , وأن تدمّر بعنف . لذلك آثر اليهود الصهاينة كبح جماح « القوة العظمى الوحيدة « وتملق روسيا حتى لا تضيع إسرائيل بين أرجل المتحاربين إذا ما اشتعلت الحرب التي حلم بها كيسنجر . فاللحظة الملائمة بالنسبة لإسرائيل لم تتحقق كما كان يتمنى الصهاينة ويرغبون . اليوم , وبعد فشل أميركا وأدواتها « غير الموثوقة « – وفق تعبير كيسنجر - خرج كيسنجر ليتحدث بصفته ممثل الحركة الصهيونية العالمية الباحث عن مصلحة الصهاينة أولاً وقبل كل شيء . وهذا ما جعل كيسنجر الذي هدّد روسيا قبل أربع سنوات بالسحق إذا هي حاولت رفع رأسها واعتراض المخطط الحربي الصهيوني , يقول بأن روسيا جزءٌ مهمٌ من النظام الدولي , وأنها تساعد بإيجاد الحلول لجميع أنواع الأزمات !! . والإشارة الى الأزمات هنا تشمل بالتأكيد الأزمة التي اصطنعت في أوكرانيا , والإرهاب الذي جرى تحريكه في القوقاز , وربما أيضاً الغارة الصهيونية الأخيرة على موقعين قرب دمشق , وإعلان كيري عن استعداد بعض الحكومات العربية لإقامة حلف مع إسرائيل ضد حماس وداعش , ويقيناً ضدّ سورية أيضاً وضدّ عرب آخرين وإيران . هو إذن غزلٌ يهودي صهيوني مباغت , أو تملق يهودي صهيوني لم يكن يتوقعه أحد قبل سنوات , يعني أن هناك ما يريده اليهود الصهاينة من روسيا بالدبلوماسية أو التملق أو الاستعطاف بعد أن فشلت « القوة العظمى الوحيدة « التي راهنوا عليها مع أدواتها « غير الموثوقة « في تحقيق ما أرادوا منها تحقيقه بالقوة . فما الذي يريده اليهود الصهاينة من روسيا في هذه اللحظة بالذات ؟ . لنضع سفسطات كيسنجر ومحاولاته للخداع جانباً , ولنركز أنظارنا على ما هو أهم . وما هو أهم في نظر الصهاينة يتمثل في أمرين : إذا كانت الحرب على سورية قد فشلت في تقويض قدرات الجيش السوري القتالية , فليحاولوا الحيلولة دون تعزيز هذه القدرات من خلال حصول سورية على أسلحة روسية نوعية أكثر فاعلية . وإذا كانت فكرة شن الحرب على إيران قد فشلت , فليحاولوا بكل السبل عرقلة دخول إيران الى النادي النووي من زاوية التخصيب , لأن حصولها على إمكانية التخصيب يعني شل قدرة إسرائيل على استخدام الأسلحة النووية ضد العرب والمسلمين دون أن تستفز إيران وتجبرها على صنع سلاح نووي تردّ به على الصهاينة . فما يخشاه الصهاينة من ملف إيران النووي هو تحييد سلاح الصهاينة النووي ليفقد قدرته الردعية أو الفعلية . لعل كيسنجر من خلال تملقه لروسيا يأمل في التأثير على قرارها بشأن تصدير أسلحة معينة الى كل من سورية وإيران , أو توفير خبرات تكنولوجية معينة لهما , الأمر الذي يزيد في قوتهما , ويقوّض بالتالي حلم إسرائيل في التوسع بين الفرات والنيل . وعلى أمل أن ينجح التملق اليهودي الصهيوني في عرقلة مثل هذا التطور تكون لعبة استثمار الإرهاب المتفاقم لتحقيق مزيد من الفوضى , وإعادة النظر في أساليب استثمار الشركاء غير الموثوقين , كفيلة بمواصلة الحرب التي كان من المنتظر أن تحقق أهدافها بسرعة ولكنها لم تنجح في ذلك . فمن المنطقي أن نتوقع من اليهود الصهاينة اللعب على كل الحبال التي يمكن اللعب عليها . وليس مستغرباً منهم أن يفعلوا ذلك , فتلك هي طبيعة نهجهم الذي اعتادوه عليه . فهم يريدون حرباً تحرق العالم شريطة ألا تمسّهم هم , ويريدون فوضى تغرق المنطقة شريطة ألا تغرق إسرائيل أيضاً . من هم شركاء أميركا غير الموثوقين الذين يريد كيسنجر تحميلهم مسؤولية فشل الحرب الأمريكية على سوريا وكامل المنطقة ؟ . إنهم حكام السعودية وقطر وتركيا بالدرجة الأولى . وهم داعش وشقيقاتها الإرهابيات المفسدات بالدرجة الثانية . وهم سَدَنةُ من ادّعوا كاذبين أنهم معارضة سورية من العملاء , والذين أسهموا في خداع مشغليهم بهدف الابتزاز المالي حين زعموا أنهم « يستطيعون أن يزرعوا في البحر المقاثي « إذا ما زوّدوهم بالمال والسلاح وقدّموا لهم التسهيلات . ولم نذكر إسرائيل هنا رغم دورها لأن كيسنجر لا يمكن أن يصنف إسرائيل بين الشركاء غير الموثوقين , كما أن الاستراتيجية الأمريكية تقوم أساساً على مخطط إيجاد الظروف الملائمة لتمكين إسرائيل من اجتياح المنطقة , ولكن بعد أن تكون المنطقة قد غرقت في الفوضى وهيمن عليها الإرهابيون , وبعد أن تكون الأرض قد مهدت لغزو صهيوني تحت ذريعة القضاء على الإرهاب بعد أن يكون الإرهاب قد قوّض القدرات الدفاعية التي تشكل خطراً على إسرائيل . |
|