|
معاً على الطريق أكثر من عشرين شاباً كانوا صباحاً أمام البيت.. همسات وكلام وتوزيع مهام.. كان أبو خيرات يبدو زعيماً وهو ينتقي الأشداء منهم ليكونوا في الصف الأول، وآخرون في الوسط، ولا بأس من حضور الصغار فهم كما قال يقدمون خدمات مفيدة. شعر الفتى الذي تولى مهمة الإبلاغ أن الأمر عمل جماعي لكن ما هو..؟ لا يعرف، لكنه حين اندس بين الصفوف عرف أن الأمر يتعلق بتجهيز المعصرة اليدوية.. لم تكن مكابس الزيتون قد بدأت بعد.. والمعصرة لمن لا يعرفها قسمان: الباطوس الذي يطحن حبات الزيتون بعجلة من حجر قاس جداً يصل وزنها إلى الطن على الأقل، تدار بواسطة خشبة يحركها الشباب.. وبعدها إلى المعصرة التي تحتاج أيضاً إلى ثقال وطنب خشبي طويل يصل إلى العشرة أمتار يحمل الثقلين في مقدمته ومؤخرته وغالباً ما يكون من الحور أو البلوط.. ولأن معصرة أبي خيرات تقدم خدماتها مجانية للجميع لم يتوان أي من الشباب عن المساهمة في نقل حجر الباطوس التي تزن طناً وقد ربطت بالحبال.. وعلى مدى أيام كانت تتركز في مدارها .. ولابد من تجديد الطنب كما جددت الحجر.. جال أبو خيرات في غابات القرية مفتشاً عن شجرة سامقة تصلح للغاية.. وبعد عناء يومين وجد ضالته في غابة تبعد أكثر من ٦ كيلومترات، وهي بعد الوادي السحيق ... أعدت الشجرة للغاية المطلوبة وتكفل الشباب بحملها جذعاً كبيراً إلى المكان المحدد، وعلى الرغم من وعورة الدرب وتعرجاته وثقل الجذع كان العمل ممتعاً ترافقه روح الشباب الذين تباروا في من يكون في المقدمة أو المؤخرة... وصل الطنب إلى المكان وجهزت المعصرة وبدأت آلة العمل تدور.. مساءات من أمل وعطاء ساعدا أبي خيرات تشدان الحبل الذي يوازن الثقلين لينهمر الزيت ندياً بهياً... وعلى مصطبة التنور أكداس من الأرغفة التي وضعت لمن يريد أن يتذوق الزيت الشهي.. وحين يبدأ موسم التعبئة ثمة من ينادي «هذه لبيت فلان ليس لديهم زيت..» توزع حصصاً يقول موزعوها إنها البركة التي لا بد منها... الكل في عرس العمل الجماعي.. يمضي شهر ونيف وحجر الباطوس تدور وتدور ومعها قصص وحكايا.. أمس مررت قرب الباطوس الذي بقي صامداً على الرغم من نوائب الدهر.. الحجر مكانها منذ عشرين عاماً ونيف لم تتحرك، وشجيرات بطم نمت قرب المكان... لم يعد الزمن هو هو.. تغيرت الحكايا وضاع العمل الجماعي وضاعت معه حكايا الدفء والعطاء.. تغير كل شيء.. بدا الزيت مزاً مراً كالحاً.. حتى شجيرات البطم القريبة بدت هرمة لم تعد تؤنسها حكايانا.. فانزوت حتى صارت إلى اليباس.. كل شيء غدا معلباً للاستهلاك.. لا الحكايا ولا فزعة العمل الجماعي... قمحل المكان.. لكن عشباً ينبت كل عام في المكان يبحث عن أصحابه يروي بعض الحكايا فلا يجد من يصغي فيمضي على أمل العودة.. وعلى بعد عشرات الأمتار من الباطوس كان ضريح أبي خيرات قرب شجرة تين شتوي، وعلى بعد مترين من جب ماء حفر في الصخر ليكون ماء سلسبيلاً لمن يمر بالمكان... تلك بعض السطور من صفحات كان الباطوس يكتبها ويرويها... نسيت أن أقول إن كلمة الباطوس ربما معربة أو هي من فعل بطش وتم تحويرها.. وفي آثار الساحل ستجد معاصر دهرية كان القدماء قد بنوها من أجل الزيت أو النبيذ.. |
|