تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عـــــالم التفــــــاهم والسيــاســات الواقعيــة

شؤون سياسية
الخميس 27-8-2009م
بقلم الدكتور فايز عز الدين

شكلت نهاية عصر الحرب الباردة تحولاً دولياً دراماتيكياً تعددت اتجاهاته واختلف على فلسفته ومآلاته، فمن ذاهب إلى سقوط الفكرة الاشتراكية من عالم انسان نهاية القرن العشرين

إلى ذاهب نحو انتصار الليبرالية الذي سيدخل البشرية نهاية التاريخ إلى قائل بعالم سيادة القطب الواحد إلى متصور بأن المجتمع الدولي ليس بالبساطة حتى تحكم القبضة عليه دولة مهما صورت نفسها ولنفسها من صور الامبراطورية.‏

كل هذه الاتجاهات الفكرية قد مثلت موضوع السجال العالمي طيلة الحقبة الأخيرة من القرن المنصرم وعبر هذا العقد الأخير من القرن العشرين تركزت آلة الدعاية الغربية الليبرالية على مفاهيم متعددة حتى تخلق ذهناً دولياً جديداً ينساق فيه النظام الدولي باتجاه خدمة الرأسمالية العالمية في آخر تطورات نظامها الليبرالية الجديدة وما تزمعه في عولمتها وانتقال الإنسانية المعاصرة والقادمة إلى الدولة الكونية القرية العالمية الصغيرة للكومبيوتر.‏

وعلى طريق تحقيق هذه المفاهيم التي صورت للمجتمع الدولي بأنها المشروع العالمي الإنساني الذي سيوقف بل يلغي التكتلات المتصارعة والتقاطبات التي تعرض استقرار العالم وأمنه للمزيد من الخطر وحافة الهاوية دخل النظام الدولي بالكثير من التناقضات والاندراجات التي لم تصل بالعالم إلى أي عتبة استقرار ثم صار الأمن العالمي معرضاً للمزيد من دخول حافة الهاوية ولو أنها لم تكن بين الدول العظمى، حيث أصبح شفير الهاوية ينحصر بالتغوّل الدولي لأمريكا القطب الوحيد الذي يمارس الهيمنة ويرفض التعامل مع الآخر الدولي بمنطق الشراكة والمسؤولية العالمية المشتركة.‏

ومنذ بدايات القرن الحادي والعشرين لم ينقطع السجال العالمي حول الممكن في نظام العالم وخاصة حين اتضح أن العولمة كنظام سيفرض على العالم لم يفتح لها الطريق ولم يتم التفاهم حولها هل هي عولمة من عنديات الكبار الاقتصاديين أم أنها عولمة بالطريقة الأمريكية تفرض على الأوروبيين أولاً وقبل غيرهم من دول العالم الكبيرة وقاراتها؟ ثم بعد ذلك صار الخلاف واضحاً حول لغة التعامل العالمية وخطابها أهي لغة الحرب أم لغة السلام أم اللغة الواقعية أم اللغة المثالية؟‏

إن ما كان يثير الدهشة وما زال هو أن تعطى العقول الحالمة والرؤوس الحامية مفاتيح إدارة الحكومة العالمية وانتظار عالم مزدهر متعاون متكامل وعلى هذا الحال شهدنا سياسات الدوران والتدوير وسياسات الدوامة وهدر الوقت وسياسات الغطرسة وتضييع الحدود بين الحق والباطل وبين الخير والشر وبين الثابت والمتحول وبين المركزي والثانوي.‏

كل هذه الأنماط من السياسة شهدتها الساحة العالمية بدون أن تنتج للعالم نظريات جديدة مقنعة أو اقتصاداً جديداً يفي بالحاجات الإنسانية المتزايدة أو يخلص البشرية من التحديات العالمية في البيئة والمناخ وفي الفقر المهدد لأكثر من مليار من سكان العالم وفي الفجوة المتسعة ما بين الشمال والجنوب وفي التخلف وجوائح الأمراض العالمية التي لها خطورتها على الصحة العالمية.‏

نعم لقد تولى مقاليد الإدارة العالمية من خلط بين المرجعية والسند وبين مصالح العالم ومصالح فئة مسيطرة عن طريق اللوبي واستبعدت -والحال كذلك- إمكانيات التفاهم الدولي ليستعاض عنها بمد سيطرة حلف الناتو على أوروبا والوصول إلى أوراسيا وإقامة الدرع الصاروخي ووضع الأمن القومي لجميع دول العالم تحت السيطرة بحجج واهية لا تقنع أحداً، منها إيران النووية التي ستهدد مع كوريا الشمالية أمن العالم في القادم من الزمان.‏

إن هذا كان يجري بتغطية كاملة على إسرائيل النووية وعلى امكانية أن تكون المهدد الوحيد لأمن الإقليم أو العالم، نعم لقد كان الانحياز لإسرائيل ومحاباتها وترك الحبل لها على الغارب لا يعبر عن قوتها وقدرتها على التحكم بالقرار الأمريكي وحسب بل إضافة إليه هو الطاقم المؤمن بأساطيرها داخل الإدارة العالمية لأمريكا والمفضلة مصالحها على المصالح القومية العليا لأمريكا ذاتها. ومن هنا شهدنا كيف وضع هؤلاء جميعاً كامل ما يملكون من طاقة حتى يجبروا العرب ولا سيما القوى المتصدية والمقاومة وعلى رأسها سورية على الحل التصفوي للصراع العربي-الصهيوني، دون أن يأخذهم أي اهتمام بسيرورة العالم إلى أين وباقتصادهم واقتصاد العالم إلى أين وبمستقبل البشرية إلى أين؟.‏

وفق هكذا سياسات متغطرسة غير واقعية فشل هؤلاء وأفشلوا معهم أحلام المجتمع الدولي بحضارة عالمية إنسانية فيها المستقبل للجميع ثم زاد في الطين بلة عليهم حين صار يتضح عجز الرأسمالية كنظام وفلسفة عن مواكبة تحولات الاقتصاد الدولي الخطرة وصارت الحلول الاشتراكية هي المخرج لأزمة الرأسمالية بتطورها الليبرالي الجديد والخلاصة في نتائج القطب الوحيد المهيمن أنه قد خسر قيادته العالمية مقابل خدمة مجانية لإسرائيل كيان الاستيطان والعنصرية ولم تعد بيديه مفاتيح التحكم باتجاهات التحول الدولي كالذي كان عليه الحال.‏

وفي ظل مفترق الطرق العالمي الذي تقف عليه الأمم المختلفة حتى تحدد أطر تطورها الحاضري وتوفر العوامل المهمة لضمان المستقبل بعالم متكامل متصالح يهمه نمو الانسان وسد حاجاته التي صارت الندرة تهددها دوماً، في هذا المفترق يطل مهندس السياسة الأمريكية في سبعينيات القرن الماضي هنري كيسنجر في حديثه مع مجلة ديرشبيغل حول قضايا المنطقة والعالم. وبمقدمة كلامه وصف نفسه -أي كيسنجر- بأنه سياسي واقعي وليس مثالياً ويشير إلى عدم وجود مكان للسياسات المثالية في العلاقات الخارجية للدولة وفن إدارة السياسة الخارجية -كما رآها- يقتضي فهم المجتمعات والمشكلات التي تعانيها والبحث عن الوسائل التي تؤدي إلى إشاعة الاستقرار فيها.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية