تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الـصورة: ســـــحر افــــتراضي

كتب
الخميس 27-8-2009م
ماهر عزام

من يستطع الوصول إلى ذهن الانسان أسرع يكون أقدر على السيطرة عليه!

هذه هي المعادلة التي ينطلق منها الإعلام المتلفز ليكون صاحب الميدان في معركة الاستحواذ على المستهلك-الزبون وفق مفاهيم الإعلام السائدة منذ نهاية الحرب الباردة..وقد بين رئيس تحرير جريدة اللوموند دبلوماتيك الأسبق إيناسيو رامونه مخاطر سيطرة الإعلام التلفزيوني على المتلقي وذلك عبر سلسلة من المقالات جمعها فيما بعد في كتاب تمت ترجمته في دمشق من قبل نبيل الدبس تحت عنوان (الصورة وطغيان الاتصال).‏

ينطلق رامونه في تحليله لسيطرة الصورة المتلفزة أكثر من وسائل الإعلام الأخرى في كونها استطاعت ان تقنع المتلقي بأن (الرؤية هي الفهم) وكل ما تراه العين لا يستحق المتابعة وليس صحيحا ويمكن أن يكون مجرد كلام في كلام، لكنه بين كيف استطاعت محطات التلفزيون أن تسوق وقائع مزورة عبر الصور المزيفة كما في مقابر تيمشوارا وحرب الخليج الاولى وأحداث البوسنة..حيث إن معظم ما شاهده الناس عبر التلفزيون تبين بأنه صور مفبركة تلفزيونيا بخبرات سينمائية.‏

ينتمي رامونه إلى جيل من الصحافيين الذين يؤمنون بأن الحصول على المعلومة يحتاج إلى جهد من المتلقي وهذا الجهد متناسب طرديا مع قوة التأثر بها، فما تقدمه وسائل الاتصال الحديثة من فضائيات وانترنت يغمر المتلقي بكم من المعلومات يجعله يتوه في غابة الوفرة المجانية وهذا يقلل حجم التأثر الحقيقي ويزيد كم الانفعال العاطفي اللحظي..وهذا في النهاية يبقي التعاطي مع الأحداث في مستوى محدود لم يجرؤ رامونه على تسميته بالسطحية..وكأنه يقول بأن العمق في القراءة والسطحية في الصورة، وهذا تحيز للإعلام المكتوب مع مغالاة بحجم المخاطر على متلقي الإعلام المتلفز..وهو يسوق الكثير من الأمثلة كنشرة الأخبار المتلفزة التي تحوي أكثر من عشرين خبر محصلة تأثيرها محدودة سوى الاندهاش بمتابعة الوقائع لحظة بلحظة.‏

ويطلق المؤلف إشارة تحذير كبرى أمام الصحافة المكتوبة الآيلة إلى المحدودية، وذلك انطلاقا من ضرورة بحث الصحافة المكتوبة عن مقومات بقائها، ويرى أن الإعلام المتلفز فرض جملة من المظاهر استطاع ان يجعلها (حقائق) كقوله بأن اهمية الخبر مرتبطة بتوفر صور عنه، وأهمية الحدث يمكن خلقها بربط المتلقي عبر البث المباشر مع الوقائع في الزمن الحقيقي، لكن أهم من هذا وذاك بين رامونه بأن الإعلام الجديد غيّر في معادلة صدقية المعلومة، فلم تعد المعلومة قابلة للتصديق أو التكذيب عبر البرهنة إنما تكرار المعلومة في عدة مواقع إخبارية وكمية وافرة من نشرات الأخبار يحولها إلى حقيقة وإن لم تكن مبرهنة، وهذا يذكرنا بمقولة غوبلز (وزير دعاية هتلر) التي تقول اكذب..ثم اكذب ..ثم اكذب.. تتحول الكذبة إلى حقيقة.‏

ولعل ما يشير إليه المؤلف من فرق بين نوعين من الصحافيين يكشف جذر المشكلة حيث يرى بأن المشكلة تكمن في وجود صحافيين يفهمون الإعلام على أنه وظيفة عند السياسي (أوصاحب وسيلة الإعلام) لا شركاء وأنداد له، وهذا يحولهم إلى ما يطلق عليه بـ (كلاب حراسة جدد) وفق مصطلح حمل عنوان كتاب الصحافي الفرنسي المرموق سيرج حليمي. حيث باتت المؤسسات الإعلامية تدار بعقلية صاحب الشركة لا بعقلية القائم على الوعي والموجه لعقول المتلقين حامل مهمة حراسة ضمير المجتمع..هكذا يبدو الإعلام كشركة استثمارية نجح في تحويل الإعلام من حاجة انسانية للتواصل إلى سلعة استهلاكية ترفيهية.‏

الإبهار الذي تسعى محطات التفزيون إلى صناعته في نشرة الأخبار ليس هدفه رفع جرعة التأثير في المتلقي إنما خلق زيادة التشويق إلى جانب النقل الحي وربط المتلقي بالحدث مباشرة عبر شبكة المراسلين وكأن نشرة الأخبار برنامج ترفيهي للتسلية ليس إلا..ومعيار أهمية نشرة الأخبار مرتبط بجمالية الإخراج التي تجذب الإعلانات وليس بقوة وصدقية المعلومة، فمثلا تدخل الإخراج التلفزيوني في حفل زفاف الأميرة ديانا في جعل روث جياد الموكب بلون موحد بين البيج والأصفر حتى لا يثير الانتباه وليآلف مع الألوان الفاتحة للأثوب النسائية، وكانت هذه الخطوة من عمل المخرج التلفزيوني للحفل حيث تم إطعام الجياد بأنواع محددة من الحبوب الدوائية قبل أسبوع من حفل الزفاف ليكون الروث (تيليجينيك) ملائما للجمالية التلفزيونية..‏

بعد هذا كيف يمكن التسليم بأن ما تتم مشاهدته عبر التلفزيون –بما فيها الأخبار المصورة- مستقل عن اللعبة الإخراجية..‏

من الواضح أن رامونة يتبنى موقف العداء للإعلام المتلفز –لا من موقع عداوة الكار-إنما من موقعه كصحافي همه كشف الألاعيب وعمليات التزييف الساعية إلى السيطرة على المتلقي مثلما يفعل إزاء أي ظاهرة أخرى اقتصادية أو سياسية..‏

ليس من الصعوبة العثور على المنطلق الذي يؤسس المنظومة الفكرية للمؤلف حيث يصرح بأن عمل وسائل الإعلام المتلفزة يخترق عقل المتلقي ويؤثر فيه بطرق عدة لصالح صاحب الوسيلة الإعلامية، بينما وسائل الاعلام هي حاجة اتصالية تحقق بعدا انسانيا بالدرجة الاولى بالاستناد إلى الحقيقة ونشرها في حين يقدم التلفزيون الإبهار والتسلية على حساب الحقيقة..‏

المتابع لكتابات رامونه في اللوموند دبلوماتيك (رئيس تحرير1990-2008) يلاحظ الهم الذي يشغل كتاباته وهو الدفاع عن الإعلام بوصفه استطالة لحواسنا لالترويج الأكاذيب والابهار والتسلية في خدمة زيادة معدلات ربح الشركات بأنواعها من مأكولات الأطفال حتى تصنيع الأسلحة..هكذا يصرح رامونه: الإعلام ليس واحدا من كواكب مجرة اللهو إنه سلوك مواطني منضبط يهدف إلى بناء المواطن.‏

الكتاب : الصورة وطغيان الاتصال - تأليف: ايناسيو رامونه - ترجمة: نبيل الدبس‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية