تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


قواعد التحدي والاستجابة في بناء الدولة والتنظيم

دراسات
الخميس 10-4-2014
بقلم: د. أحمد الحاج علي

تكتسب الظاهرة التاريخية عادةً مشروعيتها وقوة تأثيرها من خلال شروط ثلاثة توصف بأنها شروط تاريخية وموضوعية، أول هذه الشروط هي الطاقة الفكرية والموقفية في الظاهرة السياسية على قدر مافي هذا المضمون الفكري من ثوابت وقيم كبرى وصياغات نظرية وعملية أساسية.

لعلنا نجد في هذا المعيار كل مانبحث عنه وما استوعبناه وماعشناه حتى الآن في فكر البعث العربي الاشتراكي وهو بصورة عامة استيعاب لحقائق التاريخ وإنجاز أيديولوجي لطموحات الجماهير العربية على امتداد الوطن العربي الكبير والتاريخ العربي المتطاول، وميزة هذا الفكر أنه بنية متماسكة عبرت عن وعي الجماهير وقننت ثوابت هذا الفكر بشعارات ومواد ناضجة وواضحة، وهنا تتبدى أولى مقدمات وبواعث العلاقة العضوية بين فكر البعث وأصوله الشعبية عبر استيعاب وعي الجماهير وتأمين الإطار النظري والتنظيمي لنقل هذا الوعي من المستوى الأيديولوجي إلى الحالة النضالية، وثاني المقدمات التي نقيس من خلالها طبيعة الظاهرة السياسية ومقدار المؤسسات الفاعلة فيها هي السياق التاريخي الذي انبعثت فيه هذه الظاهرة، والآن ندرك أهمية لحظة ولادة البعث العربي الاشتراكي ونتلمس أبعاد مرحلة الإرهاصات والتكوين في هذا التنظيم، كان الوضع العربي في مهب الريح بعد الحرب العالمية الثانية وكنا للتو خارجين من الغدر الغربي الأوروبي بالعرب عبر الثورة العربية الكبرى، وكان العراق يناضل للتخلص من الاحتلال الانكليزي وقد تفجرت فيه ثورة رشيد علي الكيلاني منذ 1941 وهو يسعى لإلغاء معاهدة برتثموس- بيفن وهناك كان يتشكل واحد من أقوى وأخصب منابع تنظيم البعث، وهنا في فلسطين بدأت الحركة الصهيونية بمؤازرة الغرب الاستعماري تتخذ كل أنواع التمهيد والمقدمات لاغتصاب فلسطين ومن ثم إنشاء الكيان الصهيوني المفتعل، وسورية الوطن والشعب كانا يتلمسان طريق الاستقلال بعد أن تم الجلاء وطرد المستعمر الفرنسي، والمؤامرات والأحلاف لاتتوقف تتقاطع جميعها فوق رأس سورية العربية وكان من جملة الموضوعات الضاغطة قصة سلب لواء اسكندرون بطريقة التآمر مابين الاستعمارين الفرنسي والعثماني، ظروف متزاحمة وعاصفة والإنسان العربي تائه في اللجة تنوشه من هنا وهناك تيارات حاقدة أساسها أنه لابد من إلقاء القبض على الوطن السوري وتكبيله بعوامل التبعية والهيمنة الاستعمارية، وهذه مجرد لمحات من السياق التاريخي الذي انطلق فيه البعث العربي الاشتراكي، ثم تأتي المقدمة الثالثة والمتمثلة بمستويات الطاقة الكامنة والمتداولة في الظاهرة السياسية نفسها وهنا كانت تقع هوية البعث من جوانبها الكبرى وخصائصها الأكبر، كان البعث يطرح فكره وتنظيمه كموقع لصيانة الأسس الكبرى في حياة الأمة ولإنجاز مهمة تحريك الطاقات الجماهيرية العربية الفكرية منها والشعبية، وكان المستقبل هو العلاقة والأفق الذي لابد من ضبط نضال الأمة نحوه وعليه، وأدرك البعث أن هذه الأمة مسكونة بالحضارة مفعمة بالقيم الإنسانية تقوم على خزان لاينضب من الطاقات والإبداعات ومواكب التجدد والانبعاث بطريقة الحركة إلى الأمام على الدوام، وهنا تبلورت ثم تجذرت صيغة التنظيم ومصادر الفكر القومي ليس بكونهما هدفاً بحد ذاته بل لأن الفكر والتنظيم معاً في وجود البعث إنما يشكل هذه الوسيلة والأداة القادرة على أن تنجز شرط النضال في ذاتها في بنيتها الفكرية ومن ثم تتحرك نحو الأهداف الجماهيرية أي أن تنظيم البعث هنا هو وسيلة لتحقيق الهدف وليس مجرد هدف بحد ذاته، وهنا تتعانق وتتضامن في نضال البعث القيم المؤسسة مع الإنجاز النضالي والذي يتطلب في صيغ كثيرة التضحية بالدم وبالروح وبكل ماهو شخصي لصالح ديناميكية عالية تحرك طاقات الأمة بأكملها وتأخذها في مد منسجم متنام نحو الوحدة والحرية والاشتراكية، وكانت المهمة الأصعب في تاريخ حزبنا تتمثل في مواجهة التحديات القائمة والقادمة معاً، ومثلما كان البعث بوجوده تحدياً للمستعمر ولقائمة من الأمراض تتمثل في التخلف والتجزئة والجهل والاستغلال والمرض والفقر واستبداد القيم الفردية والعشائرية في مكونات الأمة العربية، كذلك أخذ البعث تنظيمه ونضاله لمواجهة هذه التحديات بمعنيين من أصل واحد، الأول منهما قدرة البعث عبر خصائصه على إنجاز التجربة في ذاته وفي عمق ذلك المعنى الثاني وهو خصائص البعث في استيعاب أولويات كل مرحلة وفي تمثل موجبات خوض المعارك مع هذا العدو أو ذاك والبعث في أساسه تنظيم حيوي متجدد يعتمد منهجية إطلاق الطاقة وصيانتها ومنهجية المواجهة للظروف العاصفة كما هو حاصل الآن، إن مجمل هذه الخصائص عبر النظرات المتوزعة عليها هي التي تأخذنا الآن إلى منطقة الأمان، فالبعث والجماهير معاً يمتلكان العنوان الأهم في النهوض والتجدد وصياغة الذات والأولويات لمواجهة التحديات الكبرى مهما كانت عاتية...‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية