تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


تخمـــــة التــــــرف

آراء
الاثنين2-2-2009م
هيفاء بيطار

مليار جائع في العالم عام 2009 وكل خمس ثوان يموت طفل! مقابل هذا التقرير الذي بثته معظم الفضائيات، يعلن عن افتتاح منتجع اتلانتيك في دبي الذي يضاهي فخامة أساطير ألف ليلة وليلة وأجرة الليلة الواحدة في هذا المنتجع هي «25» ألف دولار.

شريط الأخبار الأزرق الضيق عادل يساوي بين أقصى المتناقضات ،شريط الأخبار أكثر مرونة وذكاء من خطوط دماغي المتشابكة، والعاجزة عن هضم هذه التناقضات المهينة والمخجلة.. لا أعرف كيف يتمكن الناس من مواصلة حياتهم العادية وكل 5 ثوان يموت طفل وكيف يمكن استيعاب رقم مليار، ربما من السهل استيعاب ثروة تقدر بمليار، أما مليار جائع فتعرضهم الفضائيات شبه عراة يعيشون في أكواخ، أو في العراء، أطفال فقدوا القدرة على اللعب بسبب الجوع، فقدوا القدرة أن يهشوا الذباب الذي يحوم حول عيونهم وأنوفهم والأمهات الهزيلات المشلولات يحملن أطفالهن ويشهدن احتضارهم.‏

وفي المقابل ثمة برامج مخصصة لعرض أشهر المنتجعات الباذخة والمتفرج يمكنه أن يغوص في تفاصيل المكان فالكاميرا تصور غرف النوم والحمامات وغرف الطعام والكؤوس المذهبة والملاعق الفضية أو الذهبية والشرفات الفسيحة التي تطل على مناظر طبيعية ساحرة، وأشخاص أنيقين يتمتعون بلباقة عالية في استقبال الأثرياء.‏

أظن أنني واحدة من ملايين المشاهدين حيث نمارس فن خداع الذات كي نستطيع أن نهضم جرعة الأخبار اليومية لا بد من خداع الذات كي نتحمل عالماً يكفي التأمل في تفاصيله لدقائق حتى نخشى الجنون.. ربما نقول لأنفسنا هناك الغني وهناك الفقير عبر التاريخ ،وإن علينا القبول بالفروق بين البشر إذ لا يعقل أن يكون كل الناس متساويين.‏

منطق منافق ومضلل نقنع أنفسنا به كي لانواجه الصراخ المدوي والصامت لمليار جائع كي لا نحس بوخز ضمير متبلد الإحساس ينبض في زاوية ما من دماغنا كل خمس ثوان ليعلمنا أن طفلاً قد مات..‏

قد أتهم بالغباء وبالسطحية من إجراء تلك المقارنات وقد يقول البعض إنه من الرائع أن تشيد منتجعات بالغة الفخامة فهي تجمل المكان وتوظف الكثير من الشباب الباحث عن فرصة عمل.‏

لكني واحدة من ملايين المهمشين الذين لا يزالون يملكون قلباً ويتساءلون: كيف يدفع إنسان ما على سطح الأرض أجرة ليلة في فندق 25 ألف دولار بينما ملايين يموتون لحرمانهم من لقمة طعام؟ هل هذا تساؤل ساذج أم علينا أن ننطلق منه.. من يخطط صورة عالمنا ومستقبلنا؟ من يقود حياتنا إلى تلك الهوة التي تزداد اتساعاً بين عالم الأغنياء والفقراء؟ من يجرؤ على الصراخ والكلام ليل نهار بأن كل الحركات الأصولية المتطرفة تعتمد على الفقراء، هؤلاء الذين يرمون أنفسهم في الموت لأن سبل العيش الكريم معدومة في حياتهم ولأن اليأس نهش قلوبهم وما عاد أمامهم سوى العنف يحققون به ذواتهم ويحاولون الانتقام من مجتمع غير عادل..‏

إحدى الأمهات قالت لي إن ابنها المراهق يصاب بنوبة من الغضب الهستيري كلما حضر برنامجاً تلفزيونياً عن منتجعات بالغة الفخامة ويصرخ بأمه لماذا نحن فقراء وهؤلاء أغنياء؟!‏

من هؤلاء المجهولين صناع القرار الذين يرسمون لنا شكل حياتنا ومستقبلنا، هل يهتمون حقاً بإنقاذ البشرية من المجاعة؟ هل يعني لهم شيئاً موت الأطفال؟ أليس تأمل المشهد المخزي في العالم حيث المجاعات والأمراض، والفقر يدفعنا رغماً عنا للتفكير أن هؤلاء المتحكمين بحياتنا يتمنون ويسعون إلى الخلاص من عدة ملايين من الجياع فليبتلعهم الموت لم لا؟ لأن هؤلاء الجياع عبء على البشرية ولا داعي لزيادة سكان الأرض فليمت الأطفال في مهدهم أفضل من أن يعيشوا في الحرمان ثم يموتوا بسبب صراعات عرقية ودينية يغذيها هؤلاء المتحكمون بحياة الشعوب.‏

لست مخطئة أو ساذجة حين يتفجر غضب كاسح في قلبي كل مرة أتوقف فيها للتفرج على واجهات المخازن الفخمة، حيث ثمن حذاء يفوق ثلاثة آلاف دولار والمكان المترف المعطر والأنيق يحتفي بحذاء ويضعه في علبة زجاجية ويسلط عليه الضوء، وعلى يمين الحذاء ويساره حارسان عملاقان، متجهما الملامح يرمقان الزبائن بنظرات قاسية من الشك كما لو أنهما يقولان: نحن هنا لحماية هذا الحذاء البديع وثمة كاميرات مراقبة وموظفون لمراقبة الزبائن الذين قد يخطر ببال أحدهم سرقة إحدى السلع الرائعة، باهظة الثمن.‏

في كل مرة أكبح بصعوبة موجة الغضب في قلبي وخيالي يصفعني بصور الجياع والعاطلين عن العمل في العالم.. وأحس بتناقض فظيع وغير محتمل بين عالم الثراء الفاحش وعالم الفقر الذي يزداد اتساعاً ووحشية.‏

ترى ألا يجب أن تكون الخطوة الأولى في محاربة المجاعة والأمراض وموت الأطفال الذي يهدد البشرية. هي محاربة تخمة الترف وصناع هذا الترف، شيء مخجل حقاً ومقزز أن تصرف ملايين ومليارات الدولارات من أجل أحذية فاخرة أو ملابس باهظة الثمن أو اكسسوارات بينما هناك بشر يموتون من الجوع لا يجدون مأوى ولا طعاماً ولا دواء.‏

لست ضد الرفاهية والاستمتاع بالحياة فهذا حق مشروع لكل إنسان وكل منا يحلم أن يحسن حياته ويزيد من استمتاعه، لكن هناك حدود أخلاقية وإنسانية لمتع الإنسان وحين يكون شعار هذا العصر هيستريا الترف والاقتناء فهذا يفقد الإنسان إنسانيته ويتحول إلى عبد للشهوات تلك الشهوات التي لا يمكن إشباعها لأنها تزداد ضراوة ونهماً في مجتمع الاستهلاك الذي يتفنن في ابتكار سلع ونمط حياة مغو وفاخر واسطوري الفخامة.. هؤلاء الذين يولهون شهواتهم واستمتاعهم لا يمكنهم الإحساس بالجائع والفقير والمهان لأنهم يشعرون أن كل الوجود مسخر لخدمتهم وبأنه لا ضير أن يموت طفل كل خمس ثوان.. فهم سادة هذا العالم لكنهم لا يعرفون أو لا يريدون أن يعرفوا أن تلك الهوة التي تزداد اتساعاً بين عالمهم الفاحش الثراء وعالم الفقر الذي يزداد بؤساً واتساعاً أن تلك الهوة سوف تبتلعهم ذات يوم قريب لأن الجوع كافر وثائر ولأن الفقر لو كان رجلاً لقتلته، كما قال الإمام علي كرم الله وجهه.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية