تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


...أول الكيمياء وآخر الطمأنينة...

ثقافة
الأربعاء 23/3/2005م
ديب علي حسن

ما من شاعر عربي نال من الشهرة ما ناله ادونيس وما من شاعر عربي احدث حرائق في اليباس اللغوي والشعري واضرم النار في اماكن ظن الجميع انها فوق النقد والشبهات .

ما من احد من قوافل الشعراء فعل ما فعله ادونيس.‏

ذهب المتنبي وابوتمام وابونواس بعد ان ترك كل واحد منهم فتوحاته في ميدان الشعر .. ذهب المتنبي وظل حساده لحين من الزمن يرمونه بما يعلمون ولايعلمون, واختلف النقاد حول ابي تمام وقوله ما لايفهم. اما ابونواس فكان المتمرد الثائر على البنية الشعرية التي تكلست ومع ذلك لم يهلك في تقليد مذهبهم الشعري العشرات والمئات من الشعراء ولم يشغلوا النقاد لزمن طويل مع ان ابداعهم باق بحداثته, ببهائه, ولكن ادونيس انشغل بهؤلاء وقدم عنهم رؤىً متميزة وجريئة اعاد قراءة تراثهم الشعري ,ومن يقرأ كتابه مقدمة للشعر العربي يجد بصدق ما نذهب اليه.‏

أدونيس الذي انشغل بهؤلاء الشعراء المجددين والحداثيين في حينهم وفي كل حين هو نفسه يكمل ضلع المربع وينشغل به النقاد والمتابعون, ينشغل به المتابع قراءة لنقده وآرائه الهدامة البانية, ينشغل به محبو الشعر بعضهم يلوذ في كيمياء وتفاعلات شعره, وآخرون يذهبون الى ان ما يقرؤونه هو طلاسم يحتاجون الى سنوات لفك الشيفرة . اما هو فيرى في هذاكله بداية لطريق جديد يرى ابداعا يتأسس يكسر قالب المألوف ويشعل جمر اللغة. فالمفردات كما كان يقول بعض الشعراء الفرنسيين تكلست من فرط الاستعمال ولابد من اعادة بعثها من جديدها, لابد من صقلها واذا كانت الاشكال الخارجية متكلسة فالمعاني تهرأت ولابد من اشعال نار الابداع فيها حتى تبعث من جديد.‏

ادونيس الذي طوف في الشرق والغرب هو الشاعر والناقد وهو المقترب جدا من ابي العلاء شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء .هو الذي يقدم نفسه شاعرا يحاول ان يفك الصدأعن نظرية الشعر ويقدم بطاقة هوية في وطن الشعر يقول في كتابه (زمن الشعر) الشعر خرق مستمر للقواعد والمقاييس.. لذلك يتحرك الشعر كفاعلية ابداعية في مدار التجاوز: ليس من طبيعته ان يكون تمجيدا او وصفا اوتفسيرا للراهن سواء كان هذا الراهن رأسماليا اواشتراكيا, رجعيا اوتقدميا...‏

ويضيف في مكان اخر من الكتاب نفسه قائلا:(الشعر التجريبي العربي هو وحده الشعر الجديد وهو وحده الشعر الثوري انه اولا ليس متابعة ولا انسجاما ولا ائتلافا وانما هوعلى العكس اختلاف وهو ثانيا بحث مستمر عن نظام اخر للكتابة الشعرية وهو ثالثا تحرك دائم في افق الابداع :لا منهجية مسبقة بل مفاجآت مستمرة ,وهو رابعا ليس تراكما كما هي الحال في المجالات الاقتصادية والاجتماعية بل هو بداية دائمة فقيم الابداع الشعري ليست تراكمية بل انبثاقية وهو اخيرا تحرك دائم في افق انساني ثوري من اجل عالم افضل وحياة انسانية أرقى..)‏

هذاما قاله ادونيس عن الشعر منذ اكثر من خمسة وثلاثين عاما اي منذ الطبعة الاولى لكتابه (زمن الشعر) فهل يا ترى بقي الشعر تجاوزا وانبثاقا عند ادونيس ?هل تكلست المفاهيم بعد ثلاثين عاما ونيف في كتابه (موسيقى الحوت الازرق, الهوية, الكتابة, العنف) يعيد تعريف الشعر. وتحت عنوان نحو تجاوز المفهوم السائد للابداع يقول ادونيس:( الشعر في هذا المعنى هو تحديدا اختراق اندفاع يذهب الى الاقاصي في جميع الاتجاهات عبر الازمنة والامكنة, الجماعات والافراد ,الافكار والقيم , وذلك هو الشأن في ما يتصل بالمعرفة القصيدة تبعا لذلك بنيةمتعددة المستويات وهذه بمثابة الطبقات التي تنطوي على مختلف الاضاءات الابداعية في مختلف الميادين ,هكذا يبدو الشعر تجاوزا للقصيدة اي لحدود الشعر كما يرسمها المصطلح سواء تمثلت هذه الحدود في الانواع الكتابية الاخرى أو تمثلت في الموضوعات والاشياء وهو تجاوز في اتجاه آفاق واعماق مسكونة بنور الحياة وتلويح المجهول.‏

إعادة تكوين العالم...‏

ليس الابداع ترفا سواء كان شعرا ام نثرا ام معرفة ام في اي مجال من مجالات الحياة واي عمل لايقدم ابداعا اواختراقا فهو خارج الحياة , لابد ان يقدم شيئا ما ان يحرك الساكن والراكد. هكذا يخلص ادونيس الى القول:(الكتابة في قرننا الطالع إما ان تمارس بوصفها اختراقا وبوصفها احاطة معرفية واما انها نافلة الكتابة قائمة على السؤال ولايقدر السؤال ان يتواصل إلا اذا سار على الجسور التي تصل بين العلوم الدقيقة والانسانية ولن يكون للفكر اوللشعر حضور خلاق إلا اذا تجاوز قلق البحث عن المعنى الى قلق البحث عن معنى المعنى في هذا القلق الاخير يتحول الانسان من مجرد كائن يعيش في العالم الى كائن يخلق العالم باستمرار, اعادة تكوين العالم ذلك هوكما يبدو لي جوهر المعنى الذي تمثله هذه الكلمة)...‏

وحين قدم ديوان الشعر العربي كان يمارس اعادة خلق من جديد اعاد تقديم دررمتقدة اعاد الوهج الى الكثير من القصائد التي ركنت طويلا في مكان قصي لسبب ما وكتب في مقدمة الجزء الثاني من الديوان الصادر عن دار المدى بدمشق يؤكد انه يبحث عن المفاجىء والغريب الذي يتحد بالاسطوري العجيب وقد وجد هذا الشعر وبعضا من نماذجه عند الكثير من الشعراء ولا ادري لماذا وقفت طويلا عند ابيات اختارها الشاعر لابن القسطلي وكأنها عنوان ابداع ادونيس يقول ابن دراج القسطلي:‏

ألم تعلمي ان الثواء هو النوى وان بيوت العاجزين قبور‏

ذريني أرد ماء المفاوز آجنا الى حيث ماء المكرمات نمير‏

وكاني بالمبدع الكبير يقول ابداع المقلدين قبور...‏

ادونيس الذي ضاقت امامه المسافات فابتدع افقا وآفاقا جديدة , ادونيس الكاشف حجب معنى المعنى في مفردات تهرأت هل اتعبه التوثب الدائم ام صار القلق الفاعل رحلة عمر ادونيس هل أوكل المهمة الى الاعمى الرائي ليقول:‏

(حالة فيلسوف: كل يوم افتش عن هارب تحت جلدي) يقول يكرر جسمي حصار وارضي حصار..‏

حال الأمة:‏

امة غابة ذبحت طيرها لترى في دم المذبحة كيف يجتر جسم الطبيعة ذاكرة الاجنحة.‏

حالة اليقين‏

لا اشك:الخيول التي اسرجتها الخرافات تقتل فرسانها . اما حزنه الحقيقي فقد عبر عنه في كتابه زمن الشعر:‏

هكذا احزن حين يرميني شاعر بتنويعات الاسلحة التي ابتكرتها وامتداداتها ولكنني اخرج حين يقدر ان يرميني بسلاح ابتكر هو بقصيدة مغايرة تدهش حتى القتل.‏

ادونيس في الطريق اليه هلك الكثيرون من اشباه المبدعين وحين اعيتهم امواجه المتلاطمة رموه بالحجارة فألقى بأطيب الثمر.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية