|
ثقافة
فالمثقف يمتلك الفطنة والبراعة, في تحويل الأنظار عن أصابع الاتهام إلى صدره, لأن لديه ما يكفي من العدة والعتاد اللغوي والمعنوي والبياني الذي يصور من خلاله نفسه على أنه الضحية التي ساقتها الأقدار إلى مجتمع متخلف, واحتجاجا منه على وجوده, سينأى بنفسه, ويتنحى جانبا. والمبررات التي سيقدمها كثيرة.. لكن الحقيقة أن ميله والتزامه الصدقية تضحدها بالفعل ؟ فمحبته للحقيقة, وتمسكه بالإخلاص والحرص على النهوض بمن حوله والقيام بمسؤولياته في الدفع بهم نحو الأفضل ينبغي أن تكون الهدف الذي لن يتخلى عنه أيا كانت المبررات. وبصراحة أوسع, فإن مثقفنا اليوم يرى العيوب في كل محيطه, لكنه ينسى أو يتناسى نفسه. فهو الذي أصيب قبل غيره بما يمكن تجاوزا أن نسميه (داء الطفو), وعشق الظهور والانتشار والشهرة, بصرف النظر عن حجمه المعرفي, وقبل بلورة أدواته الثقافية, ومنهجه الفكري والعلمي الذي سيشكل مساره لابل وقبل أن ينشئ خطابه الذي سيقدم نفسه من خلاله. ولعل هذا التعجل لديه, مرده ضعف شعوره وإحساسه بمسؤولياته, في مهمة التصدي لقضايا المعرفة والتثقيف, وقيادة المجتمع, قيادة حقيقية فعالة تأتي بصفتها استحقاقاً طبيعياً ٱنذاك. وربما ساهم الإعلام بكل وسائله وأدواته مسؤولية في ذلك تعجل المثقف نفسه, وذلك بسبب الإغراءات الكثيرة التي أصبح يقدمها لما يمكننا تسميته بالمثقف غير مكتمل الأركان, فيجعله يتصور نفسه على أنه أمسى شخصية عامة, ونجما إذاعيا وتلفزيونيا, ورائدا تملأ مقالاته أعمدة الصحف والدوريات. والمشكلة أن صانع الخطاب الثقافي اليوم, إذا كان ناجحا فإنه يستطيع أن يؤثر بالملايين من الناس, ويستطيع أن يشكل لديهم اتجاها ثقافيا وتيارا يحاكي رغبات الناس عن بعد, فيضللهم ويوقع بهم بدل أن يأخذ بهم إلى جادة الحقيقة والصواب, ثم يكتشف نفسه بعد نضجه واكتمال ملامحه ورسالته أن خطابه الثقافي لابد له من التعديل وإعادة الصياغة, وربما بناء خطاب ٱخر أكثر نضجا وأبلغ جدوى, فيقع في دوامة التكذيب. ولن يتمكن والحال على ما كانت من إعادة الناس الذين تبنوا خطابه إلى الجديد فيه, بل ستنشأ من قلب تياره الثقافي شخصيات جديدة وأسماء جديدة, تبعده وتتهمه, وتأخذ دوره, وهذه الشخصيات والأسماء ستشكل خطورة أدهى وأمر, لأنها بطبيعة الحال ستكون أقل معرفة ونضجا.. إن انشغال المثقف بالناس وانتشاره بينهم يحرمه من ناحية من الدرس والتأمل والتفكير والتحصيل الإضافي, ما يجعله مستهلكا من ناحية ثانية, وكم من مثقف كان همه الأدب والشعر, فإذا به يتحول فجأة إلى الانشغال بغير همه ورسالته وتخصصه, فيتصدر للشغل في السياسة والتنمية, ونحن هنا لا نشكك في مشروعية التحولات الثقافية, لأنها استمرار طبيعي للتراكم المعرفي لديه, ولكن هذه التحولات لا ينبغي أن تتم على حساب أصحاب التخصص من المفكرين والسياسيين, فيأتي الشاعر ليحل محل العالم والفيلسوف والاقتصادي بدوافع انتهازية ومصلحية تجعل من حراك المجتمع وتقدمه أمرا معقدا, إذا لم نقل أنها ترمي به في مستنقعات التناقضات والمتاهات الصعبة. هذه بعض ملامح مشكلاتنا الثقافية, من خلال بعض ملامح مثقفنا نفسه, والحقيقة, أن الطفو والظهور والانتشار سيكون استحقاقاً طبيعياً لو تمهله المثقف واستمهله, وإذا ما وجد نفسه مغمورا بالأضواء, فإن عليه أن يتعلم كيف يخطو خطوة إلى الوراء, خطوة مهمة له يبقى من خلالها على تواصل حيوي مع مصادره المعرفية والثقافية التي ليس لها حد أو أفق. و لأن هذه الخطوة الخلفية, تسعى بالمثقف دوما إلى المزيد من المعرفة, والثقافة, في أن انقطاعها, يؤدي إلى انغلاق المثقف على نفسه, وربما يدعي ٱنذاك أنه امتلك الحقيقة, في حين أن المثقف الحقيقي هو الذي يعي ويدرك قبل غيره, أنه جزء من الحقيقة المعرفية. |
|