|
ثقافة ذاك العام كان عاماً للفرح. ذاك العام كان عاماً للحزن. رأيت قيصر حزيناً رغم الفرح الذي يعتري الإذاعات والشوارع.. أغان وطنية حماسية عن الثورة والآمال العراض.. تحدثت معه. رأيت دمعاً في عينيه.. كنا نتهيأ للحادي عشر العلمي وقد درس العاشر وحده.. لم يستطع أحد إقناع والده بتغيير موقفه بعد أن رفض تمويله حتى البكالوريا.. القضية تتطلب مكان سرير في غرفة في جبلة.. وأكلاً وشرباً وكتباً ودفاتر.. و.. -من أين؟! بكى الرجل قبل ابنه.. أبكته «أم قيصر» وهي تترجاه ألا يتركه على قارعة الطريق.. «يارجّال كلها سنة والثانية وتمضيان.. وبكره يأخذ البكالوريا.. ويذهب إلى الكلية الحربية.. ويصبح ضابطاً ويساعدنا». -من أين ؟! منظر الرجال يبكون.. بيان بقمة العجز.. أول مرة رأيت من يفعلونها كانوا أبي وأخوالي وآخرين.. يبكون أمي التي ماتت في عز الصبا.. كان عام «الميلاديو».. غرست الأرض بالدخّان وأصابه العفن الأزرق «الميلاديو» ومات بأكمله.. من أين نوفّي الديّانة والدكاكين ونشتري المونة والأعلاف و.. و..؟! الحياة ليست سهلة.. والذين يسهرون على الأفراح يواجهون فراغ الاقداح.. وامتزج الحزن بالفرح. ذاك العام دخلت دمشق لأول مرة في عمري.. حلم لم أنس متعته.. تفاصيل الطريق.. المدن التي تمر بها.. بانياس، طرطوس، تلكلخ، حمص.. (كان لحمص مدخل رائع يزهر فيه الزيزفون كرنفالاً حقيقياً) ثم النبك فدمشق.. الرحلة بالباص تأخذ ست إلى سبع ساعات.. ومنذ ذاك اليوم عزّ عليّ فراق دمشق ولم تفارقني الدهشة طيلة بضعة الأيام التي قضيتها فيها.. دخلت مؤسسة الوحدة للمرة الأولى - خلف القصر العدلي - زائراً.. كان أخي يعمل فيها.. وكانت الثورة الوليدة تحبو بخطواتها الأولى على الأرض.. أظنها كانت في الشهر الثاني من عمرها.. أو الثالث.. لا أتذكر بالضبط.. كانت المدينة ما زالت تعرض للزوار آثار الاختلاف والفراق لا الوحدة.. يومها رأيت لأول مرة بيتاً محروقاً وقد اخترقته قنابل الدبابات.. أقدر اليوم أن الموقع غرب المالكي.. حالة مهيبة مليئة بالتناقض.. شارع المالكي الجميل ومسطحاته الخضراء وإلى غربه البساتين «الغوطة الغناء.. وبيت اخترقت جدرانه قنابل الدبابات..». حكاية الخلافات بين جناحي الحكم الذي قضى على فترة الانفصال «8 آذار 1963» ليست بخافية.. كان صراعاً فيه الكثير من الرعونة السياسية وغير السياسية.. قاد إلى: 1-غلبة البعثيين وسيطرتهم على الحكومة بصورة رئيسية. 2-حركة 18 تموز الانقلابية الفاشلة التي قام بها الناصريون وصفيت بعنف وإعدامات.. ومحاكمات استمرت طويلاً.. 3-حركة 18 تشرين الثاني في العراق التي استفاد فيها الرئيس العراقي الراحل عبد السلام عارف من الخلاف الناصري البعثي للسيطرة على الحكم.. وزجّ البعثيين في السجون إلا من عبر منهم الحدود.. أخبرني علاء بأن طلبه الذي تقدّم به للانتساب لحزب البعث العربي الاشتراكي قد قُبل.. ونصحني بأن أفعل.. ولم يعرني اهتماماً عندما حدثته عما رأيت.. قلت له: - زرت مؤسسة الوحدة. - هل اشتريت شيئاً؟ - أشتري ماذا؟! - ماذا فعلت بالتي تسميها؟ - من هنا كانت تصدر جريدة الوحدة. < أي وحدة؟ - اسمع هل تعرف اسم جريدة «الثورة»؟! - يذكرونها أحياناً.. لا أحب الجرائد.. أنت مجنون فيها.. حفظت «لي» أنهم أغلقوا صحيفتين.. ومن يومها رأيتك تدور على كعبك بل عشقت «الوحدة». - ليس هذا فقط ما حفظته.. - (طيّب) تذكّر غيره! - لن ينقذ العالم إلا معجزة.. - شو هالعالم وشو هالمعجزة؟! - الرأي العام – أحمد عسة نظر إليّ باستغراب وإعجاب واستهزاء وقال: - أبوكم دللكم؟! لن ينقذ العالم إلا معجزة هي افتتاحية الأستاذ المرحوم أحمد عسة في جريدة الرأي العام حول أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا.. والتي كادت تودي بالعالم إلى حرب عالمية ثالثة.. «أتذكر الافتتاحية وكانت صغيرة.. قرأتها كاملة مع مانشيتات الصحف.. على واجهة المكتبة».. سكت مرغماً قيصر الحزين لم يساعدني .. طلب أن أتركه بهمه.. كان يستعد للسفر إلى لبنان ليعمل هناك.. ـ حسب خططه ـ حتى يؤمن تكاليف الدراسة.. حاولت أن أقنعه بالتطوع في الجيش حيث هناك حركة ناشطة بهذا الاتجاه لحماية الثورة، لكنه رفض وقال لي: - التطوع يأخذ وقتاً.. - على ماذا تستعجل؟! لبنان ينتظرك؟! - لا أستطيع أن أبقى هنا.. - «فطومتك» تعجّلك؟! - «فطومة» ماذا يا ولد ألا ترى؟! أشار إلى الأراضي التي سكنتها بنباتات الشوك والأعشاب بعد أن ماتت غراس الدخان وعاد يبكي. انضم إلينا علاء بضحكته المجهولة السبب غالباً.. وسألني: أين توظف أخي؟! قلت: في مؤسسة الوحدة.. - رجعت تحكي لي عن الوحدة.. - جريدة الثورة. - يذيعون عن هذه الجريدة يومياً في الراديو، لم يذكروا اسم أخيك.. ثم أطلق نبوءة.. هنيئاً لك «نيالك» غداً بعد البكالوريا يجد لك وظيفة فيها.. - والحادي عشر.. والبكالوريا. ثم أنا أريد أن أدرس الهندسة.. - هندسة الشوارع وضحك بصخب.. بدأت أواظب على قراءة جريدة الثورة.. بدأت أحفظ أسماء كتّاب فيها.. بعضهم انتظرني للتعارف ربما.. وبعضهم ترك الصحيفة قبل أن أصل ربما احتجاجاً.. بدأنا الحادي عشر العلمي.. وبدأ معنا اختلال انتظام الدراسة في الثانوية التي اشتهرت حتى ذاك الوقت بنتائجها وكثرة المسيسين فيها.. مضى العام.. مظاهرات.. احتفالات.. هتافات..وتصعيد واهتمام شديدان بالتربية العسكرية «الفتوة» وطالما أبكرنا في الدراسة فقد أبكر إلينا السلاح.. وفي معسكر الفتوة الصيفي على شاطئ اللاذقية الجنوبي التقينا في حقل الرمي ذات مساء بالنقيب محمد ابراهيم العلي وكان قد نفد من الإعدام وأطلق سراحه من السجن.. خلطة تدريب ورياضة وسياسة وسلاح..و... رومانسية.. ومشاريع للحب من طرف واحد.. وبحث عن المجهول.. عندما زارني أخي في المعسكر.. رحّبت به وبالبطيخة التي أحضرها وبعدة أعداد من جريدة الثورة.. وبدأ التواصل.. ربما بدأ طرف آخر للحب يظهر.. نسيت جريدة الوحدة بفعل ظهور الثورة كبديل.. وربما تأثرت كثيراً ببيت ثقبته قنابل الدبابات في حوار الوحدويين المتصارعين على السلطة في دمشق. a-abboud@scs-net.org |
|