|
ثقافة
من البدهي القول إن تغير نمط الحياة وتغير سلوكيات البشر, وتبدل معطيات الواقع الاجتماعي والاقتصادي هو سيرورة طبيعية, كما أن تغير المعجم اللفظي والدلالي للناس هو سيرورة طبيعية. وتبدو الأغنية حقلاً غنياً لاختبار ومراقبة التغيرات والتبدلات الواقعة في الحياة والواقع. يبدو مذهلاً كل هذا الكم من العنف والابتذال في الغناء- ليس في بلاد العرب فقط, بل في العالم كله.. الآلات والموسيقا الكومبيوترية طغت على حنان الآلات الوترية, الفيديو كليب المرافق يبدو في حد ذاته مجالاً هاماً لرصد ودراسة التغيرات القوية التي حدثت على الحياة الاجتماعية والقيم والمفاهيم. لم يعد العنف اللفظي حكراً على مشاحنات بين خصوم أو أعداء.. بل صار حالة طبيعية حتى بين أحباب وأصدقاء.. العنف اللفظي.. المخدرات.. الجنس.. القتل.. تسليع النساء... وقد صار الجنس بكل مستوياته عنصراً هاماً وشبه وحيد للترويج لأغنية.. هي ذي عناصر أساسية في أغنية اليوم. لم يكن التحول مصادفة, بل كان تجلياً واقعياً لعالم القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين, حيث تحول الجميع إلى سوق لتصريف المنتجات, وصرنا جميعنا مواد استهلاكية لها فترة صلاحية للاستعمال.. صرنا مجرد احتياجات وقلوب لاتنفتح إلا بكثير من الهدايا والعطايا والحيل والتزلف والزيف! لو راقبنا العراق أو الجزائر أو غيرهما من البلاد العربية لوجدنا أن الحديث يتكرر عن مظاهر العنف التي طغت على الغناء كلاماً وألحاناً.. كتب أحدهم: «منذ سنوات ونمط الغناء في العراق يتّجه ليصبح أكثر عدوانيّة في الكلمات والألحان، مع استخدام الطبول وحتى أصوات القنابل والطائرات. لم يعد مستغرباً في الغناء العراقي أن يغازل الحبيب حبيبته بالقول: «أنت تشبهين غارة جويّة!» أو «انتظارك يشبه الانتظار في نقطة تفتيش عسكريّة» أو «عيناك كقذيفة مدفع» أو «إني أتمنّى أن أتحوّل إلى عبوة ناسفة أمام منزلك». في الجزائر كتب آخر: «لم يعد غريباً عندما نسمع شاباً يتغزل بجمال حبيبته وأنوثتها وهو يصفها بـ «البومبة» لأنه لا يملك في قاموسه اللغوي الصغير ما يمكنه من صناعة تلك الهالة من الإعجاب لحبيبته, ولأن القنبلة دليل القوة أصبحت هذه الكلمة تستعمل في كثير من الأحيان. كأسلوب للوصف المثالي لأي امرأة جميلة، «البومبة» نافستها كلمة أخرى هي «القريفة» التي تحولت من عالم الموضة إلى مجال الغراميات، حيث أصبح يقال عن فلانة بأنها بمثابة «قريفة»، أي آخر صيحة. هل كانت الحرب التي هزت العراق والجزائر وحدها ما تسبّب بذلك، أم إن هناك أموراً أخرى كالفوضى والهزّة الاجتماعيّة التي أعقبت تلك الحروب في البلدين! هذه التغيرات لم تعفِ أيضاً الغناء النسائي فصارت بعض المغنيات يتحدّثن بشكل صريح عن «الإيحاءات الجنسيّة وعن تعدّد العلاقات وعن الخيانة الزوجيّة، وهي مفردات كانت محرّمة في الغالب في الفترات السابقة». ثمة أسباب أخرى على ما يبدو لهذا التحول يرتبط بعضها بتطوّر نمط الحياة في العالم وتعدّد طرق التعبير عن الذات عبر الفنون المختلفة ولا يمكن إهمال دور التكنولوجيا ونمط الحياة المتسارع. لو أردنا رصد تلك الظاهرة في سورية, ربما لما تمكنّا من تتبعها جيداً, فقد انحسرت الأغنية السورية جداً عن الساحة ولهذا كان تأثيرها وتجلى التغير عبرها ضعيفاً للغاية, وقد تركت الأغنية الساحة للدراما السورية التي أبدعت في ناحية وسقطت في عنف لاواعٍ في نواح أخرى. الفراغ الذي تركته الأغنية السورية على الساحة المحلية, جعلها تنأى بنفسها وتغيب وهذه خسارة ما بعدها خسارة, السوريون الذين غنّوا خارج سورية لم يشذّوا كثيراً عن القاعدة السائدة بحكم سلطة المال والإنتاج ومعايير الانتشار والوصول إلى الشهرة. لكن يمكننا ببساطة تلمس التبدل الحاصل في قاموس الحياة اليومية السورية في الحديث الشفاهي وفي بعض الشعر السوري المولود على خلفية الحرب الدائرة في البلد والمتغيرات الاجتماعية العميقة التي تتخلق وتتخذ أشكالاً غريبة عن المجتمع السوري. كان غياب الأغنية الوطنية مؤشراً آخر على ضعف الرابطة بين الوطن وأبنائه, نفتقدها فقط أوان الشدة والأزمة لحشد العواطف... فهل ستتمكن هذه الأغنية بعناصرها القديمة أن تحقق ما كانت تفعله قبل سنوات بعيدة. هل لنا بقصيدة مغناة على نمط: «بردى هل الخلد الذي وعدوا به إلاك»؟ هل لنا بشعر كشعر نزار: «يسمعني حين يراقصني كلمات ليست كالكلمات...»؟ نحتاج حقاً إلى كلمات ليست ككل الكلمات التي غزت قاموسنا اليومي الواعي وغير الواعي.. نحتاج إلى فعل قصدي وبوعي عميق إلى كلمات تصف سورية وجمالها.. فهذا الجمال هو الجوهر الوحيد القادر على تجميعنا كلنا ولا مجال للتشرذم حوله مثلما يحصل حول شعار أو كلام عقائدي أو سياسي أو غير ذلك. مؤلم أن تحل جملة مثل: «في حاوية قلبي انفجرت عبوة ناسفة» محل جملة: «أحبيني بلا عقد وذوبي في خطوط يدي»....! |
|