|
كل أربعاء في ظل قامات كبرى امتلأ بها الفضاء السياسي لدول العالم الثالث وقتذاك، جواهر لال نهرو وجمال عبد الناصر وجوزيف بروزتيتو واحمد سوكارنو، رجال من طينة صلبة لم يكن الزمن قد شهد مثيلاً لهم من قبل، عقدوا العزم على بناء قوة دولية ثالثة، لاتهتدي بوصلتها السياسية بنجوم الكرملين الحمراء في موسكو، ولابلمعان الضوء على رأس تمثال الحرية في نيويورك، قوة ثالثة يتوازن بها العالم المحكوم يومها بسباق التسلح، وصراع ايديولوجيا الشرق المادية مع مبادئ السوق الرأسمالي الحر، والواقف دوما على حافة الخطر النووي، الذي كادت شرارته تقدح أكثر من مرة في وجه البشرية لمرة واحدة فقط وإلى الأبد! كان الحياد الإيجابي وعدم الانحياز في عقول العرابين الكبار لهما يعنيان بناء صرح دولي جديد بين شرق العالم وغربه، يختبر تجربة نموه على قواعد غير نمطية لايحسبها الفكر الاشتراكي في أقفاصه الجاهزة، ولايطلق فيها السوق الحر فوضاه، صرح دولي يساند حرية الشعوب ، ويشارك في عملية تصفية الاستعمار القديم المطبق على مساحة جغرافية شاسعة تمتد من جنوب شرق آسيا إلى إفريقيا، صرح دولي مسكون بالطموح لانتزاع البيت الأممي الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية من قبضتي الجبارين المتصارعين على ملكية الأرض من القطب إلى القطب! دول كثيرة التحقت بهذا الفضاء الوليد ودونت اسمها في جدول أحلامه، ووقعت على محاضر مؤتمراته وبياناته وقممه المتنقلة من عاصمة إلى عاصمة، وافترضت - في العلن على الأقل- أنها تقف على مسافة واحدة من ستار موسكو الحديدي الذي يخفي خلفه نظاماً صارماً عصياً على الاختراق، ومضاربات أسواق المال المنفلتة من عقالها من وول ستريت في نيويورك إلى بورصة لندن ومصارف باريس وأرصدتها السرية! ماذا بقي من فضاء عدم الانحياز الآن بعد أكثر من نصف قرن على ولادته بالأحرف الأولى في باندونغ؟ وماذا يعني الآن عدم الانحياز بعد أن أقفلت الحرب الباردة ساحتها ، وتهاوى الستار الحديدي حطاما على يدي ميخائيل غورباتشوف، وانكشف الكرملين وساحته الحمراء أمام نشيد صاخب يتلعثم بمفردات الحرية القادم من الغرب بإيقاع خادع أطبق على كل الآذان في إمبراطورية لينين المغدورة! صمد العنوان وتبخر المعنى ، ظلت دول عدم الانحياز تتكاثر وتتنقل من عاصمة إلى عاصمة ، و تطلق بياناتها من منابر تحكي بكل اللغات ، ويتسابق قادتها إلى القمم بقوة دفع غير مرئية، بحثاً عن أهداف لم يتحقق شيء منها على مدار العقدين الفائتين على الأقل، لأن الزمن تغير ولأن العرابين الكبار غابوا قبل أن يبلغوا قصدهم، ولأن عدم الانحياز بات مصطلحاً يحتاج إلى مضمون، بعد أن تربعت قوة واحدة على عرض الكون وصادرت قراره ومقاديره! معظم مكونات عدم الانحياز أذعنت لجبروت هذه القوة، وتحولت إلى ملاعب لخيولها ، وتبعتها طوعاً أو كرها بعينين معصوبتين وأيد مغلولة، رهنت اقتصادها وسط زحف العولمة بالاقتصاد الذي يرسي قواعده صعود الدولار الأمريكي أو هبوطه وقلصت أفقها الاستراتيجي في الحدود الملائمة للاستراتيجية الكبرى التي ترسمها دوائر البنتاغون ومصالح الشركات المتعددة الجنسيات ، ضاق هامش الاستقلال فيها واتسعت متطلبات التبعية في السياسة والاقتصاد ومنظومات القيم ، لكن اسمها لم يتغير ولم يطرأ عليه أي تعديل ، ظل اسمها دول عدم الانحياز دون أن نعرف معنى هذا المصطلح في زمن باتت فيه الأرض ترقص على ايقاع واحد بمايسترو واحد، على مسرح واحد عرضه بعرض اليابسة! |
|