|
شؤون سياسية وعلب الليل وما يلبث أن يلملم شظاياه بطريقة غير ملموسة ويتسلل تحت وهج اللافتات والشعارات البراقة ومن أمام كل تلك الأضواء المصنعة يرحل السؤال وقد بدأ متحركاً وانتهى معتلاً أو جريحاً أو مصدوماً، في مرحلة ما لعلها موغلة في القدم، ولعل بعض مزاياها المترهلة مازالت تحوم في أفقنا أو في رؤوسنا كانت السياسات العربية تتابع قضايانا الكبرى تسأل عنها أحياناً، وتتساءل عن همزة الوصل التي لا غنى عنها لكي نتواصل مع هذه القضايا، اليوم صارت القضايا المعزولة والمجمدة هي التي تحاول أن تسأل عن أصحابها العرب. والسوق العالمي لا يتوقف ولا يرحم ولا يحسب حساباً لأولئك الذين أصابتهم نزعة الخواء وتخلوا عن قضاياهم علناً هذه المرة وبأسلوب الجملة مرة أخرى لكن سؤال القضية عن صاحبها مدخل رومانسي وكيفية أساسها الألم وأفقها الضياع، أما سؤال صاحب القضية عن قضاياه أعني عن ذاته واحتمالات وجوده وصور مصيره على المدى القريب والمتوسط فهو الذي يؤكد حيوية الموقف وسلامة المعادلة، لقد انحسرت السياسات العربية إلى منطقة الظلال الرطبة واكتفت بأن تتبع دون أن تتابع وتتفرج دون أن تعرف مشاعرها مع أي فريق هي، وما الذي يجذبها أو يحرك فيها بعض الهواجس والتعاطف؟ سوف يقول البعض هذه لغة التشاؤم فما هو موجود ليس كذلك أولاً، ثم لمّا تستنزف السياسات العربية أوراقها جميعاً، ولكن المدهش هو أن هناك من لا يزال ينظر لهذا الواقع على أنه صيغة حيوية ولكنها ما زالت تكتسب معالم التخلق والصحوة المستجدة على إيقاع العصر المتغير، يميز هؤلاء بكثير من السذاجة بين العصر ومتغيرات العصر، وهناك مجموعات مفاجئة أخذت دورها براحة واستمرار لتعلن أن كل هذه الوقائع هي أنماط ومجموعات من دلائل الحيوية والبحث عن موقع في القطار الهائج الذي لم يعد له محطات يتوقف فيها أو سكة يتسارع عليها، وبالمحصلة هناك من يتألم، وهناك من يضحك على هذا الألم والصراع محتدم بكل أسلحته الفكرية والإعلامية والسياسية، المهم ألا يدخل إلى الساحة وألا يتداخل معها نمط الصرخات وجيل الأفكار الحرة وموكب الانبعاثات التي ترصد الواقع وتعبر عنه بلا حرج ودون أوهام أو رتوش، لم يكن مثل هذا الصراع الحاد على الذات العربية قائماً أو محتملاً فيما مضى، هل رأيتم مرضى ومحاصرين يتناقشون أو يتنافسون على أحقية دولة في إفريقيا أو أمريكا اللاتينية بتنظيم موسم تصفيات عالمية لكرة القدم؟ هل سمعتم عن جائعين يستمتعون بوصف الموائد الفاخرة وعن لابسي أسمال يبدعون في الحديث عن شركات الموضة ومواسم تصميم الأزياء والحفلات التي تقام لهذه الغاية؟ بالتأكيد لا نعترض على وجود الخلل والألم معاً، فالأمة العربية حية وغنية وما زالت منذ تاريخها الأول في منطقة الاستهداف الخارجي، بل إن تاريخها هو من نضال عاثر مصطخب لنضال عاثر مصطخب، لكن الذي يعنينا هو أن يتحول الألم إلى إدمان وأن نتكيف مع المعاناة إلى الدرجة التي نطرحها صرخات شعرية أو لحظة بوح على موائد كؤوس الطلى أو احتفالية دينية في إحدى التكايا نحمل الله فيها أقدارنا ثم نتوسل إليه أن يدمر أعداءنا وأن ينقلنا على بساط الريح إلى حيث الإشراق والراحة والحلم المحفور. إن درجة الإحساس بالواقع هي حقيقة واحدة ثلاثية الأبعاد بُعد فيها يؤكد الحياة، وبُعد ثان يؤكد الصحة النفسية والعضوية، وبُعد ثالث يؤكد المسؤولية عن كل ما يحدث وعن كل ما يجب أن يكون، وبالتأكيد هناك خلل كان سياسياً في البدء ثم صار مسلكياً فيما بعد واستقر منهجياً في الآونة الأخيرة وإلا فماذا يعني أن يتعرض الجسد العربي المترهل لكل آثام العصر من الاحتلال حتى النهب المنظم ومن القتل حتى تضييع معالم الهوية دون أن يبدو علينا ما يؤكد أننا نحس بما يجري ونخجل من أنفسنا بما نقدم وندرك مخاطر ما ينتظرنا غداً أو بعد غد، ومازلت أعتقد بأن زمناً كالذي نعيش لابد أن يكون فيه الدور والمسؤولية للنخب الفكرية والسياسية والإعلامية، علينا أن نتذكر أن الحكومات وما يتبعها منسجمة مع دورها ومكاسبها ولديها من الإغراءات وستائر التغطية وذرائع التبرير ما يكفي، لا تطلبوا من الأنظمة السياسية العربية أن تغامر فتفقد ذاتها أو أن تبدي حراكاً فيكون ذلك كالدجاجة التي حفرت وعلى رأسها عفرت ولا تطلب من المجاميع العربية الهائلة والهائمة وهي تطارد الرغيف أن تنجز المعجزة في زمن الامبريالية الجديدة وعصر المعلومات وثورة الاتصالات، وفي واقع يتحول فيه الأقوياء إلى سادة للدنيا بكاملها، يطلبون ويفعلون وهناك على الدوام من يطالبهم بأن يرسلوا بعض قوافل الإعاشة ومواكب الإنقاذ لكي يحجزوا بين العرب والآخر ولكي يحقنوا دم العربي من السفك والسفح ولكي يآمنوا بعض القوت وبعض حاويات (البالة) حتى لا يقضي البسطاء جوعاً أو برداً أو احتراقاً، هذه منطقة زمنية هي من خصائص أولئك الذين طرحوا ذواتهم ونشاطهم على أنهم نخب الأمة، بعضهم كتاب وبعض منهم مفكرون كما يقولون عن أنفسهم ودورهم، بعض منهم أفراد ومجموعات ومراكز إنتاج فكري والبعض الآخر أحزاب بأسماء لاهبة وبحركات لا تقبل بأقل من التحرير والديمقراطية والانبعاث القومي ولا تتنازل عن كونها استمدت وجودها من الفتح وبأن إيمانها لهيب حماسة لا يخبو ولا ينقطع، نعم هنا بيت القصيد وهنا مربط الفرس كما يقولون هذه التشكيلات من النخب يجب أن تحاصر بدورها وتسمياتها، من المؤسف المحزن أن هذه التشكيلات النخبوية استهوتها لعبة التبعية للنظام السياسي العربي، كل حسب مزاجه ودرجة الاستفادة من هذه التبعية، وكل اصطنع لنفسه ذات المسارات والمعايير التي تحكم العالم بقواه الكبرى، تخلت هذه النخب عن دورها البسيط المتبلور وعن مهمتها المبسطة حيث لابد من تسمية الأشياء بأسمائها ورصد الظواهر العربية بأسبابها واستحقاقاتها واحتمالاتها بدلاً من اللجوء إلى هذه اللغة المتماوجة بأن أي قضية في أي قرية عربية نائية لا يمكن تفسيرها إلا بمعايير العالم الجديد وبدهاليز الواقعيات السياسية العربية بل إن هناك من صار يطرح علناً بأن لا قيمة للفكر ولا أهمية لأي معتقد ولا ضرورة للإحساس بالألم أو التعبير عنه بذريعة أن عالم اليوم ابتلع كل الخصوصيات واستوت الثورة الهائجة على قمم وعند مواقع وعواصم هي التي تعرف الصورة الكلية للعالم وهي التي تحسب حساب العرب في الوصية السنوية المتعلقة بوصف العالم وحقوق الإنسان، وصار علينا أن ننتظر أولاً وكان آخر ما يجب أن ننتظره هو ما الذي سوف يفعله أوباما على سبيل المثال بعد الذي قاله في جامعة القاهرة. |
|