|
كتب هارييت مارتينيو بقولها هذا, الوارد في كتاب المجتمع في أميركا, تلامس صلب وجوهر حقيقة أمريكا القرن التاسع عشر. حيث أسياد بيض وعبيد سود, وعلاقة تجمع ما بين الطرفين السابقين, ليست سوى علاقة ملكية. الملكية بما تعنيه من أموال, مزارع, رقيق, إماء هي كل شيء ودونها المرء لا شيء في مجتمع الضدين ذاك. مجتمع التناقضات الصارخة: أسياد وعبيد, بيض وسود, دون أن ينعدم فيه وجود لون ثالث, ناتج عن انتهاك أقوى الطرفين السابقين لكيان وحرمة الطرف الأضعف, إنه اللون الخلاسي. ومع وجود تدرج في ألوان البشرات, إلا أن الوجود الحر والقوة وحتى المال لن تتوافر إلا بيد السيد الأبيض.. ولذلك فالتمرد هو الطريق الوحيد, و ردة الفعل الطبيعية لذوي البشرة السوداء في وجه الرجل الأبيض المتغطرس. تمرد يصل حد العصيان الدامي لكسر كل أنواع الظلم والقهر والاستعباد اللاإنساني وغيرها من تلك الممارسات التي لطالما عانى منها مجتمع السود. (العصيان) رواية فاليري مارتن, ترصد ملامح أمريكا كالقرن التاسع عشر, بكثير من الحيلة والذكاء الروائي الموحي بحقيقة الأمور دون مباشرة ومجاهرة صادمة. ومع أن العنوان الأصلي للرواية هو (مزرعة).كما يذكر المترجم حسام خضور مدركاً أن العنوان جزء أساسي في أي عمل إبداعي, إلا أنه يبرر تغييره العنوان مؤكداً أن العصيان هو جزء لا يتجزأ من الحياة التي تعكسها هذه الرواية بعين كاتبتها- على حد قوله. (المزرعة) هي المكان الذي تتم فيه أهم مجريات العصيان, وفيها تصل حبكة الأحداث إلى ذروتها, ولربما كان هذا السبب المباشر الذي جعل الروائية تسم عملها بهذا الاسم. فهي المكان الذي شهد أكثر من عصيان وتمرد على أكثر من صعيد,سياسي اجتماعي, و شخصي وأياً كان العنوان, فكلاهما يومئ بثيمات محملة بطبيعة الأحداث المتوقعة.. أول شيء يمكن أن يخطر في بال المتلقي, هو أن هكذا نوع من الأعمال الروائية التي ترصد بدايات الصراع ما بين مجتمعي السود والبيض في أميركا, ربما اشتمل على تصوير وقائع التعذيب ومعاملة السوء التي لقيها السود على أيدي البيض, والتي صبغت الكثير من الأعمال أدبياً وسينمائىاً.. (والجذور) رائعة أليكس هيلي, هي من أهم الروايات التي صورت هذا الموضوع, موضوع الزنوج الذين ساقهم الأوروبيون في سفن , ليبيعوهم للمزارعين الأميركان.. إذاً لن نجد في (العصيان) وصفاً لذاك الظلم الفاقع اللاإنساني كما حدث مع بطل الجذور (كونتا كونتي) الذي قيد وجر بالسلاسل, وإنما هنا ظلم يعبر عنه بأسلوب آخر, ظلم يتسلل من بين كلمات وأفكار فاليري مارتن, في تصويرها لشخصية بطلتها السيدة البيضاء (مانن غوديت), إذ ستروي القصة على لسانها وبزمن ماضٍ, تأكيداً لماضوية الأحداث ا لدائرة في عمق ا لجنوب الأميركي. تتزوج (مانن) زواجاً تقليدياً من صاحب مزرعة سكر في ولاية (لويز يانا), تاركة حياتها المطمئنة والسعيدة مع والديها في البلدة بولاية (نيو أورليانز). سرعان ما تكتشف (مانن) فشل زواجها الذي يدوم عشر سنوات دون إنجاب أي طفل, لأنها لم ترغب بطفل من زوج لا تحب, زوج كل ما يستطيع فعله هو استدانة المال لأجل خساراته المتكررة وخيانتها مع خادمتها, الأمة السوداء (سارة), وسارة تلك التي كانت هدية خالتها بمناسبة زواجها, تنجب طفلين غير شرعيين من السيد (غوديت), الطفل الأول غير السوي (والتر) وطفلة أخرى سوداء, ليبقى هذان الطفلان دليلاً على خيانة زوج (مانن) لها. وبينما تترقب الاثنتان (السيدة و الخادمة) الخلاص من (الزوج - السيد) تموت والدة مانن تاركة لها ثروة لا بأس بها, تمكنها من تدبر أمرها إن بقيت وحيدة, إلا أنها لن تكون حرة التصرف بثروتها لأن القانون يقضي بانتقال أملاك الزوجة في هكذا حالة إلى زوجها, الأمر الذي يجعلها تتمنى أكثر من أي وقت مضى, الموت لزوجها. (مانن) تفكر بالتحرر من سلطة زوجها, و العبيد سيقومون بتمردهم ضد أسيادهم وهكذا تتشابك الأحداث معبرة عبر خطين متوازيين عن قصة الحرية المبتغاة سواء أكانت فردية شخصية أو جماعية سياسية. لتبلغ هذه الدراما الشخصية ذروتها أثناء بلوغ عصيان العبيد الدامي بهجماتهم بيت (مانن), وتكون نتيجة التمرد مقتل زوج مانن وهروب سارة نحو الشمال, تقول في وصف مقتل زوجها:(كان زوجي على ركبتيه, يصارع لينهض والرجل الكبير يمسك بشعره. وقفت سارة قريباً منه.. وعيناها على سكين قصب السكر التي رفعها عالياً فوق رأسه.. وسقطت السكين في اللحظة التالية. كان هناك صوت الفولاذ الذي يثير الغثيان يقطع العظم, وسقط رأس زوجي إلى الأمام على صدره بوضعية مستحيلة). استعادة سارة الهاربة, تغدو شغل مانن الشاغل ولن تقبل بعرض السيد روجيه الخلاسي الراغب بشراء سارة بضعف ثمنها, بل على العكس تصر على استرجاع خادمتها السوداء كنوع من عدم السكوت والتنازل عما سمته حقها. فتلك الأمة مع كل ما تمتلك حتى مع أبنائها هي ملك للسيدة. وهنا تنجح الروائية فاليري بالإيماء بكل مهارة إلى فظاعة عقلية الرجل الأبيض, عبر الإلماح إلى طريقة تفكير مانن وتتبعها بأسلوب غير مباشر, إظهار تلك الازدواجية والتناقض في فكر (بطلتها) كنموذج عن مجتمع البيض الأميركان , ولربما كان ذلك من أهم أسباب نيل الروائية جائزة أورانج البريطانية .. إذ كل ما في الرواية من سرد للأحداث و بناء للشخصيات وعقدة الحبكة, تخطه بكل سلاسة وبساطة دون أي تكلف أو تعقيد ودون انتهاجها لأسلوب خاص معقد. وكما لو أن ذكاء الروائية تبدى عن طريقة إتقانها للعبة الأدب عبر الإيحاء بالشيء دون التصريح به. ولذلك لم تقم بوصف البطلة بصفات مباشرة جلية, و إنما جعلته شغل القارىء, ووحده القارىء المتعمق يمكن له أن يستشف صفات البطلة (مانن) التي تبيح لنفسها الحرية الساعية إليها, وتنكرها على أولئك السود ما يشكل مكمن قوة رواية (العصيان). تقول (مانن): (تمعنت في هذه الصورة ل سارة. تلبس ثياباً مستعارة وتجلس بطريقة رسمية على طاولة خشبية غير مزخرفة ,فيما امرأة أميركية شمالية لا لون لها, ذات شعر خفيف ربطته بإحكام إلى الخلف, تقدم لها الشاي في كوب من الصيني,والزوج المنصف يجلب مسنداً ليدع ضيفه يشعر بمزيد من الراحة, وقد أذهلني ذلك كشيء يثير الضحك تماماً. ماذا يعتقدون أنهم يفعلون بحق السماء?). الكتاب: رواية العصيان - المؤلف: فاليري مارتن - المترجم: حسام خضور - الناشر: دار السوسن 2007م |
|