تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أقبح من الذنب..

الثلاثاء 5-3-2013
سعد القاسم

على السماع.. تعبير يستعمله العاملون في مجال الموسيقا للتمييز بين عازف يعتمد على قراءة النوطة الموسيقية،وآخر يعتمد على ما حفظّته إياه أذناه،وفي هذا التمييز شيء من تفضيل العارف بالقراءة،لكنه أيضاً يحمل شيئاً من التقدير لموهبة الثاني..

وبسبب شيوع التعبير فإنه كثيراً ما يستخدم لغير الغاية التي وجد من أجلها،أو للتندر والمداعبة،فقد كان أحد كبار موسيقينا يسخر من طريقة قيادة إحدى السيدات لسيارتها بقوله إنها تقودها (على السماع) بحيث لا توقفها إلا عند سماع صوت ارتطامها بسيارة أخرى،أو بجدار ..غير أن الطرافة تختفي عندما يتعلق الأمر بمعلومة أو فكرة أو قول..وهو أمر شائع في البلاد العربية، شيوع مقولةإأن العرب ظاهرة صوتية، بمعنى أن الأولوية عندهم هي لما هو مسموع لا لما هو مقروء..وهو أمر يبدو مفهوماً في مجتمعات تسودها الأمية، وتفتقد وسائل المعرفة..لكنه لا يعود كذلك حين ينتشر التعليم (على الأقل معرفة القراءة)،وحين تتوفر وسائل المعرفة المتنوعة من الكتب والدوريات ووسائل الاتصال المتقدمة..ويصبح (كارثياً) حين تحل (ثقافة السماع!!) محaل ثقافة القراءة بين من يقدمون أنفسهم كمثقفين، وأحياناً كمثقفين متنورين!!...‏

سنجد عدداً وفيراً ومؤسفاً من الأمثلة عن أشخاص من ذلك النوع، يتبنون روايات ومواقف اعتماداً على حديث عابر سمعوه خلال دردشة في مقهى، أو لقاء سريع في الطريق، أو من حكاية اختلسوها بالمصادفة،ولم يكلفوا أنفسهم أدنى جهد للتحقق منها،وكثيرا ما بدأ أحد المثقفين حديثه بانتقاد نص مكتوب، وأنهاه باعتذار يبرر خطأه بخطأ أفدح على غرار: «لقد سمعت ولم أقرأ بنفسي».مقدماً من نفسه وحاله نموذجاً للقول الشهير «عذر أقبح من ذنب»، لا يقل سوءاً عن القصة المفبركة عن هارون الرشيد و(أبو نواس)..‏

حضرت مرة حديثاً بين مثقف يحمل شهادة جامعية كبيرة،وبين كاتب نشر مقالة عن أحد معالم دمشق،كان الأول ينتقد مقالة الثاني لما اعتبره معلومة ناقصة فيها،فلما أجاب الثاني (باستهجان يحاول إخفاء نفسه) أن هذه المعلومة واردة بوضوح في مقالته،انسحب صاحب اللقب الجامعي من انتقاده مكتفياً بالقول: في الحقيقة لم أقرأها !!..ومثل هذه الحالة تكررت، وتتكرر، بأشكال مختلفة لمرات لا حصر لها،لتؤكد في كل مرة على غلبة الحديث المتداول على المعلومة الموثقة بين أوساط كثيرين ممن يعتبرون أنفسهم مثقفين..أو يقدمون أنفسهم كمثقفين..‏

والمفارقة المؤلمة أن زيادة فرص الحصول على المعلومة الصحيحة بفضل تطور وسائل الاتصال وفي مقدمتها (الانترنيت)،أو على الأقل الحصول على القول غير المشوه من مصدره الأصلي،لم تؤد إلى تراجع هذه الظاهرة،بل إنها، وخلافاً لكل منطق سليم، قد نمت عند شرائح واسعة من مستخدمي (الانترنيت) ومدمني ال (فيسبوك).. فقبل وقت قليل كانت إحدى المحطات التلفزيونية تبث لقاء مع شخصية اعتبارية،وكان أحد فرسان ال(فيسبوك) من أصحاب الأسماء التنكرية،يعيد في اللحظة ذاتها نشر بعض ما قاله الضيف،إنما بعد تحويره وقلب معناه رأساً على عقب، وإلى هنا يظل الأمر مقبولاً،فما هو أسوأ كان في تبني أصدقائه (الفيسبوكيين) لنصوصه المزيفة، وتعليقاتهم عليها، دون أن يكلف واحد منهم ذاته فتح التلفزيون ومشاهدة المقابلة بنفسه، والتحقق من صحة القول الذي يكتب تعليقه حوله..‏

وتكتمل المصيبة (الثقافية والمعرفية) حين تعرفون أن هؤلاء المعلقين الذين لا يقرؤون ..ولا يسمعون.. يقدمون أنفسهم في المجتمع، وعلى صفحاتهم، بهذه الصفات: باحثة اجتماعية،روائي، شاعر،قاص، مخرج سينمائي،فنانة تشكيلية..و......كاتب سياسي..‏

www.facebook.com/saad.alkassem

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية