|
الملحق الثقافي لأرضنا الأنثى العنيدة، تنهض النساء بالحزن يودعن وجوه الأحبة، ينثرن الأرواح بالأرز ويكتبن القصائد. لا يقاوم الموت إلا بالشعر ومن أجدر منه؟!
أهم ما تعكسه الكتابات النسوية هو الاغتراب وتتفرد باغتراب الذات كمفهوم له مصطلحات ودلالات ربما أحدها ويكاد يكون القاسم المشترك هو الانفلات من الوزن والقافية والتفعيلة، وتقع الشاعرات عموماً بمطب الرفض لكل ما هو قائم والاغتراب الداخلي عن التواصل حتى مع حقيقتها كأنثى التي غالباً ما تمارس عليها كتابياً اضطهاداً يوازي ما تتلقاه من اضطهاد مادي ونفسي وبيولوجي من المحيط، ناهيك عن بعض المقطوعات المبعثرة والقليلة التي تسمح لها بإظهار وجهها وجسدها صارخين على الورق، وهذه حالة يتيمة بكل ديوان نسوي. «على الأرجح نحن من يغني الآن» هو الديوان الخامس للشاعرة السورية رولا حسن التي تقاوم قسوة الأرض بأظافر الشعر من خلال ومضات تضيء جوانب مختلفة حيناً ومتناقضة حيناً آخر بلغة بسيطة ممتنعة جارحة ومشغولة بالورد. ثمة هذيانات وغضب وندم وحب في كلمات يبدو فيها الهاجس الأكبر ألا تستحيل عابرة أو رقماً في شوارع المدن أو البلاد أو الأمكنة، حالة تفرد تنشدها بعيداً عن الجموح، علها تفرغ حمولة الذاكرة من الشوارع والضجيج والبحر، تقول بقصيدة «مدن»: المدن تتسع وقلوبنا تضيق إلى أين نمضي والخراب يزهر في الوقت تمتلك شاعرتنا سلطة الحضور الحامل للدلالات الواضحة والمتلبسة في نصوص تتكئ على الروح والتداعيات باحثة عن إمكانية القول لهواجس حبيسة المدن والنساء وكلاهما أنثى. وبين اغتراب المكان واغتراب الجسد تمدح رولا النساء، إذ حظي الديوان بفعل الغناء الذي يمارسنه الآن بديلاً عن البكاء وسط تراكم الخسارات لروح امرأة نمت كفطر وعاقرت وحدتها لتتسلى بها عن الفقد والخيبة، وهذا نموذج بقصيدة «نساء2»: لم يبق حزن لم نسقط فيه في ظلال الخيبة كبرنا كسرخس غير أننا فتحنا للنهارات الشاسعة قلوبنا وهيأنا للصباحات حدائق وعصافير الآخر في الديوان هو المتواطئ مع الذاكرة ومع ومضات الاكتئاب ومع فراغه على الكرسي هو المفقود والملام والمضيء والصادق وتبدو بانتظاره مع يقينها المسبق بالخسارة إزاء تزاحم الوجوه أمامه، إزاء إمبراطوريته التي يشيدها وهي خارجها تصفق لانحناءته، وتحصي الجزر والأخطاء وتمنح عفوها البارد اللامبالي عن فراغه. كخيط في بساط أكثر ما نشبه تلك الكراسي وحيدين ينهشنا الماضي بأنياب من القش. تستدرج الشاعرة متلقيها لأفخاخ لغوية وفضاء مغاير للراهن، إذ تستنفره وتتحداه بتقنيات سردية لا تدع له الوصول لكل مفاتيحها دفعة واحدة بل ترميه بها صفحة تلو الأخرى، المشغول هو الروح والمسكوت عنه هو الجسد. حين تكتب عن الروح تحلق وتظهر إشكالية التصالح مع الجسد المرهق من الانتظار والحلم ومضادات الحزن ولا تسعفه الأشعار والورود بانفلاته المرجو، إذ بقي أسيراً ومهمشاً وأحياناً مكروهاً برفض قاطع: تمنيت الغياب كي لا أكون هذا الجسد وهذا الوجه. وتختتم الشاعرة ديوانها «على الأرجح نحن من نغني» بمعجم الورد كما أرادت للورد أن يكون نثرته شعراً يليق بحضوره ويعكس ما أسعفتها به الذاكرة حيال أنواعه من ذكرى وعبق وأشخاص، تقول بمدح الحبق: لأن الحب شح ولا يتقاسم مع أحد شيئاً يملك ويحرم ما عداه له هذه الرائحة وليست لسواه. استطاعت رولا حسن خلق جديد شعري والذي هو أصلاً طبيعة التجارب المميزة بترتيب رؤيا وهاجس وعكسهما بدلالات لغوية لذاكرة متلق، نجحت بشغله بنصوص مختصرة ومضيئة حد السكوت الملغم بالبوح كما نجحت بكونها دليلة لفسحة شعر نسوية بامتياز. |
|