تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


روعة الفنتازية في - موتى يقلقون المدينة

كتب
الأربعاء 6-6-2012
عبد الباقي أحمد خلف

كانت باكورة أعماله الغضة كشبابه مجموعته (يموتون وتبقى أصواتهم 2010م) التي أتحف بها قراءه لتلامس المشاعر وتنتصر للبسطاء والمسحوقين

وهاهو يثنـّي بمجموعة جديدة وعلى نفس النسق لكن بمدى أوسع واشتغال أدق ولغة أسمى ومجال أرحب ، تضم مجموعته ثلاث عشرة قصة قصيرة قدم له القاص المغربي أنيس الرافعي الذي علق بقوله : (يعيد الكثير من الألق والتميز لطفلة الأدب الصغيرة المشاغبة لأنه استطاب اللعب في الضفاف المسكونة بالنسبي والهش )ص10‏

في قصته الأولى (وقائع يوم الأربعاء) يشير إلى ما يحمله المدلول اللفظي لهذا اليوم عند كثير من الناس حيث ارتبط الأربعاء بالشؤم وبالتالي الفشل ثم يسرد أحداثاً تؤكد ذلك وفي نفس الوقت يتوازى مع عالم الخرافات وقد كانت الشخصيات تترى :أبو بكر – أمينة الصغيرة – الداية أم عبد الستار – العجوز أم جابر ..أثناء ذلك يسجل القاص تفاصيل الحدث أحيانا وبدقة متناهية (ثم قذف بنثار التبغ العالق بشفته السفلى وسحب نفساً طويلاً فيما غاصت سحنته في صدى همس مديد ..)‏

إلى ذلك يصور القاص حالة الحرمان والعدمية التي تعيشها أنماط من الناس في قاع المجتمع عبر بطالة مزرية وبمفارقة مدهشة‏

يختم قصته بمشهد فنتازي تخييلي (وعند الصباح سيستيقظ عبد الستار ليتفاجأ بأنه قد انقلب إلى ثور صغير)‏

وفي النهاية : ( سيدلف رجل متدثر بجورب أسود يخفي ملامحه ويطلب إليه أن يتبعه إلى الخارج لكنه سينكمش متكوماً على بعضه ومنذ تلك اللحظة سيختفي عبد الستار إلى الأبد)‏

تلك الشخصية المثيرة التي اتكأ عليها القاص في مجموعته السابقة (يموتون وتبقى أصواتهم ) ليدلف بنا عالما آخر من عوالمه الزاخرة‏

في قصته التالية (لمن تبتسم الملائكة)يستجمع الكاتب عناصر فنية غاية في السمو والاشتغال حين يتصور حالة المفارقة بين الأديب الكاتب والمجتمع فيمثل ذلك بحالة من الفنتازية /الخيال/ يقوم فيها بطل القصة بالمرور على صور ومشاهد من الواقع تتنكر له الأحداث والمواقف ولا تشأ التعرف عليه حتى يرسو على مقربة من طفلة صغيرة تحدوها البراءة فتبتسم له مرمزاً بذلك للبراءة الفطرية لديها .‏

أما في قصته (أجوبة على أسئلة الوصية) فيرمز فيها إلى إشكالية الحياة في ظل الأنظمة القمعية ووضع الإنسان تحت المراقبة الدائمة بل تعدت إلى الأموات تراقبهم وتتخذ منهم جواسيس وهي في الحقيقة تصوير للحياة المزرية المحبطة .‏

أما في قصته (الرجل الشفاف)فيصور حالة الخذلان واليأس التي يعيشها أي مواطن أمام الجهات الأمنية بطل القصة هو شخصية عبد الستار الذي يستند عليه القاص في إبراز وجوه التناقض والمفارقة حين يقتاد أخوه لأحد الفروع مما جعل عبد الستار يحصل على بطاقة زيارة بعد جهد كبير وحينما يعد الخطوات نحو لقاء أخيه المعتقل الذي لا يعرف عنه شيئا كانت العقبة الأولى له بالمرصاد حيث يتم توقيفه في غرفة الانتظار ليعاني الخوف والبرد ساعات وحينما تأتي ساعة اللقاء يصدم عبد الستار جواب الضابط : ليس لدينا سجين بهذا الاسم رغم وجود الوثائق المثبتة فيفاجأ عبد الستار أنه أصبح متهماً بعد أن كان زائراً حيث يقرأ له الضابط تفاصيل حياته وأنه يمارس جريمة قراءة أشعار الشاعر الكبير نزار قباني : ( السر في مأساتنا أن صراخهم أعلى من أصواتنا وأن سيوفهم أطول من قاماتنا يلبسون قشر الحضارة يفرضون الجاهلية يختصون بذبح الياسمين ) وبذلك تختم القصة .‏

أما في قصته ( لماذا لم أنتحر) فيحاول القاص المزج بين صور واقعية وأخرى متخيلة فيصور حالة اللامعقول والمتناقض في المجتمع والواقع المعاش متمثلاً في حالة القوانين السائدة لا المكتوبة يمثلها الموظف المدير مستحضراً الحالة الإنسانية التي تمثلها الأم الحنون حين ينخلع بطل القصة منهما جميعاً إلى حالة من الفنتازية ليتحول في النهاية إلى بخار هلامي لا أثر له .‏

وفي قصته (على جواد أسود بغرة بيضاء) رغم قصر القصة بالنسبة للأخريات إلا أنه يختزل فيها حالة الإنسان المعاصر وأمنياته المبتورة ويعكس ذلك في حال الإنسان الكاتب المخذول الذي لم تطبع رواياته بعد عرضها لدور النشر ليفر بعد ذلك من الواقع لكنه في النهاية يمتطي ظهر جواد أغر يمثل أحلامه الطائرة إلى حيث المجهول.‏

في قصته : (تفسير آخر لحكاية النهر) يرحل بطل القصة من الضوضاء والناس إلى حيث السكون عند النهر المغروز في ذاكرته الداخلية منذ الطفولة ذات رحلة مدرسية إلا أن هذا النهر كان يرمز لشيء آخر يعني الختر (النهر ختار) والغدر والافتراس لكن بطل القصة يجد في النهر ملاذه الأخير حيث يتحول إلى النهاية الطبيعية ليصحو البطل من انفصاله إلى حالة السكون ليختم النص بقوله (وغفوت كما لم أغف في حياتي)‏

أسلوبه يتسم بالجزالة والقوة فلا تكاد تجد حشوا ًأو لغواً دون فائدة والكلمات تتوارد بمقدار المعاني، أما العبارات فقوية كأنها مداميك بناء في صرح عتيد. وأما روح الألفاظ وحيويتها فحسبها أنها تشد القارئ شدا من تلابيبه فلا تدعه حتى آخر محطة في قصصه وهي غنية بالصور الأدبية منها : (ندت عني آهة حرّى) ( كان البياض يجلل فوديه) (إذ ذبلت صحتي ووهنت عظامي،واشتعل الرأس شيبا )‏

وتبقى المجموعة مدماكاً جديداً في بنيان أدبي زاخر بالإبداع والاشتغال يضاف لمشروع عمران القصصي السابق.‏

الكاتب : عمران عزالدين - الناشر دار ممدوح عدوان الطبعة الأولى 2012‏

Abbaqi5@gmail.com

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية