|
كل أربعاء وأن برهان الرجال على شجاعتهم لا يمكن إثباته إلا بمقدار ما يبذلون من دمهم أو يسفكون من دم سواهم، فلعبة الدم التي عرفها البشر منذ النشأة الأولى كانت جريمة خارج قوانينها، وطقساً مقدساً حين يتكامل في أدائها العقل والواجب والمروءة والأخلاق، وبهذا المعنى، فالتاريخ البشري حافل بجرائم سفكت فيها أنهار من الدماء، واقترفها بشر جبناء، كان ينقصهم العقل والأخلاق وتنقصهم شجاعة الرجال والتاريخ البشري أيضاً مليء بقصص الدماء التي أريقت انتصاراً للحياة، وحباً بالمثل، والتزاماً بالواجب وانحيازاً للعقل، وبذلها بشر من كل الوجوه والأسماء، كتبوا بدمائهم تعريفاً مشرفاً للشجاعة، وحرروا لعبة الدم من فوضاها، وألبسوها قوانينها العاقلة التي نسج بخيطانها من أتى بعدهم قصص التضحية والفداء! للسوريين تاريخ حافل بمثل هذه القصص، فمنذ عصور نهضتهم القديمة التي بلغت ذراها العالية في العصر الأموي، اختبروا معدنهم أمام التحديات، واتجهوا شرقاً وغرباً على خيول ذهبت بفرسانها في كل الجهات لا لسفك الدماء، بل لنشر بيانات القيم، وإن عرفوا يومذاك بالفاتحين الذين ضجت بسيرتهم الأمم من الهند إلى الأندلس كرسل حضارة في زمن لم تكن قد تبلورت فيه حضارات، وحكام رحمة وعدل في عصور الظلم والظلام، لم تكن قلوب السوريين في أي وقت ملوثة، حتى في معاركهم وحروبهم العادلة، بشهوة الدم، كانوا شجعاناً في المنازلة، يعشقون ترابهم ويذودون عنه بأرواحهم، لكنهم لم يمثلوا يوماً بقتلى أعدائهم، ولم يعذبوا أسراهم، ولم يفتعلوا قتالاً كان يمكن أن يتجنبوه بإحقاق الحق سلماً، ولم يهربوا من قتال فرض عليهم وصار محتوماً، ففي تاريخنا الحديث في عشرينيات القرن الماضي لم يخرج يوسف العظمة إلى ميسلون ليكسب حرباً ضد جحافل الجنرال غورو، بل خرج ليكمل مسيرة الفرسان السوريين الذين يقاتلون بالعقل والواجب والمروءة والأخلاق، دفاعاً عن الأرض والقيم، ثم يستشهدون ويبذلون دمهم على التراب الذي عشقوه، تلك الشهادة التي نبتت في صدور الثوار السوريين فيما بعد كإبراهيم هنانو وسلطان باشا الأطرش وحسن الخراط وصالح العلي، وتحول النبت إلى ثورة عمت أرجاء الوطن وكسرت في نهاية المطاف أرجل جنود الاحتلال الفرنسي فأرغموا على الرحيل، وفي المحطات التالية التي قاتل فيها السوريون في حزيران 67، وتشرين 73، وحرب لبنان الأولى 82، في كل هذه المحطات كان السوريون يبذلون الدماء ويسفكون دماء أعدائهم على خطا أسلافهم دفاعاً عن الأرض والقيم وطلباً للرحمة والعدل! ما نراه اليوم على أرضنا، هو خارج كل هذا التاريخ الذي نتوضأ بذكرى أحداثه، فلعبة الدم تجري عكس قوانينها، بين السوريين في معظم صورها الدامية، وهي تفتقر إلى شرعية الواجب والأخلاق، لا أثر فيها لشجاعة السوريين ولا لمروءتهم، لأن الدماء التي تسفك فيها هي من فصيلة واحدة، حتى وإن تسلل المرتزقة إلى بعض الصفوف، ونفخوا بأفواههم نار الفتنة، فأحفاد يوسف العظمة لا يحسنون استخدام السلاح إلا في مرمى العدو، وأحفاد إبراهيم هنانو لا يعرفون إشعال الثورة إلا في ثياب المحتل، فمتى إذاً كان السوري يطلق رصاصة إلى الخلف، ومتى كان هذا السوري يبدل اتجاه البوصلة، ويستورد من كتاب «برنار ليفي» وسائل إيضاح الثورة التي تحلل له دم السوري الآخر حتى ولو كان في مهد طفولته، وتزين له الخراب والدمار حتى ولو كان خراب الوطن ودمار دولته، ومتى كنا -نحن السوريين- جميعاً نرسم مصير سورية الرائعة على قياس غرائزنا وطيشنا حتى ولو سقط الهيكل على رؤوس الجميع، هل نسينا اللغة وكفت ألسنتنا عن الكلام، ولم نعد نعرف سبيلاً للحوار، أم إن شياطين لعبة الدم قد فقدت صوابها، لأن أحداً هناك في الخارج يريد لنا أن نموت. |
|