تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


فردوس مشتهى ..جحيم مضاد!

كتب
الأربعاء 11-11-2009م
أحمد علي هلال

ثمة صورة متواترة في مسار الأدب الافريقي، صورة زاهية تتوزع على مساحات سردية في تجارب روائية متصلة، لا تختزل بما أنجزه الروائيان شينوا اديشي ونادين غورديميير وسواهما مما عرف بالعربية،

وإنما تنسحب على الإبداع الافريقي في الأعم الأغلب، ألا وهي صورة الروح الافريقية وتعاضدها في أعمال كثيرة لافتة للنظر، بسماتٍ مشتركة - على الأرجح- تفصح عن الجذور والهوية، لكنها لا تسقط النزوع إلى عالم جديد- يحمل في طياته الرغبة في التجديد والتماهي مع تلك العوالم اليوتوبية المتخلية!‏

تقترب الكاتبة الشابة شيما ماندا نغوزي أديشي، النيجيرية من عوالم واقعية لعل ثراءها فيما توفره- للقارئ- من ضروب تخيل ضروري- فضلاً عن أن الواقع ذاته يبدو بسلطته مرجعاً أثيراً للكاتبة، بحيوات نابضة، وحكايات متصلة ومنفصلة في آن، لكن خيطها السردي يمتد بحرير لغتها وكثافة هواجسها، وتيمناتها المتواترة أيضاً ، ومنها تجارب المهاجرين النيجيريين في أمريكا ، وانعكاس الحرب الأهلية النيجيرية على المصائر البشرية ، لتكتب روايتها الأولى (بابل هيبسكوس) عام 2003، لتليها مجموعتها القصصية «نصف شمس صفراء» عام 2006.‏

ثمة جهود حثيثة لترجمة عملها إلى العربية، لإظهار نمط من القص بخصوصيته ، وقوفاً على أدب جديد يمثل حساسية لافتة، ويغري باكتشاف فضاءات خصبة، يتعالق فيها الواقع مع الخيال، مع الأساطير ، وإذا كانت شيما ماندا تختار أماكنها برموزها وحيوات أبطالها الواقعيين، فهي تذهب فيما وراء الحرب الأهلية النيجيرية، لتسرد وقائع يغلفها التمرد أو الأسى. ومواكبة الفضاءات الإنسانية تنشد مقاربة فردوس مفقود، لكنه الجحيم الذي يستحق «نصف اغماضة ولكن باتساع» لتجعل من أغاني «الاغبو» دالة جذرها الافريقي الحي، وكخلفية لأحداثها، وكذاكرة للمذابح ومدى ما تلقيه على النفوس من قلق وتوجس، لتنشئ سيراً أخرى لناس مازالوا على قيد الحياة ، تتنازعهم «الهوية» لم نعد الآن نيجيريين، بل أصبحنا «فرنسيين».‏

لكنه- الألم كما في نصف شمس صفراء التي حملت عنوان مجموعتها- الألم الذي تراهن الكاتبة عليه«نحول ألمنا إلى أمة عظيمة، سنرفع من ألمنا مجد إفريقيا» فيما تبدو أغاني «الاغبو» ومقولاتهم كحوافز نصية موزعة بإحكام لتكثف رؤيتها بما يجري من أحداث ووقائع، إن ريشة النسر الخبير الناضج تظل دائماً نظيفة، ذلك العنوان الدال سوف نراه بظلاله الكثيفة في متونها الحكائية، وفي متابعتها لصيروات شخصياتها«ننمادي» أو العائلة أو مطاردة أحلام عصية، أو صور الجحيم الذي خلع الأرواح ،وبددها في فضاءات «بيافرا» نصف شمس صفراء لا تزين ربطة عنق، إنها مجاز الجحيم الذي تبرع الكاتبة في وصفه كحقيقة طاردة لأوهام الظفر بالفردوس، أو استدعاء الزمن المحلوم به، خارج وقائع الحرب وفظائعها وأهوالها«كانوا بشراً مثل أولئك الذين قتلوا الخالة ايفيكا».‏

كانوا بشرا مثل الذين أجهضوا الأطفال وهم في بطون أمهاتهم، تقول بطلة شيما ماندا وهي تتعثر بجسد جندي نيجيري، وتتساءل عن طريقة موته وكيف كان شكل حياته، فكرت بعائلته..زوجة تقف في انتظاره خارج المنزل وعيناها مصوبتان نحو الطريق ، نحو أخبار عن زوجها تتحدث الكاتبة عن ملح سوريالي وجد في نيجيريا ، وكان سبب اجتياز سعيها إلى الحدود ، وهي ترصد انتقال نيجيريا من السير على جهة الطريق اليسارية إلى السير على جهة اليمين، ماذا يعني ذلك هل أصبح الشعب نيجيرياً مرة أخرى ؟!‏

ثمة ما تثيره- قصصها الأخرى- في انتقالاتها بين صور الموت وصور الحياة، من قضايا لعل أبرزها ليس الحديث عن الأوبئة والفقر والفساد، ومآسي الأطفال ومحنة العلماء فحسب، بل عن المفارقات ذات الطابع «التراجيدي- الكوميدي» وجوهرها السعي لارضاء الغربيين كما في «أنت في أمريكا» كما يحدث مع المهاجرين الافريقيين الذين يرون الانفتاح المثير في أمريكا ، تقول مغتربة «إنها ليست شيئاً مثل الوطن (نيجيريا) هذه هي أمريكا..لتقارن في أنماط العادات والتقاليد والأمزجة ، من خلالها بطلتها «أكيوننا» المهاجرة والمسحورة بأجواء أمريكا ، والتي تعتقد أن كل شخص فيها يمتلك سيارة وبندقية،أمريكا فرصة للأعمال والأحلام، الآخر الذي نفعل كل شيء لارضائه، لتعود وحيدة إلى وطنها بعدما غادرها ذلك الشيء حول رقبتها!‏

يتدفق السرد لدى شيماماندا وهي تبرع باستخدام ضمائر السرد وأساليبه توزع ذاكرتها الروائية على تحولات شخصياتها ، تؤرخ لمن تعرفهم، أو تسمع عنهم، لعل سردها بتلك الطرق المباشرة أو الكنائية يستبطن سيرتها بشكل موارب ، وسيرة شعبها ، لترسم صورة كلية لافريقيا بتأريخ وجدانها الجمعي وصوغها لمحكيات مألوفة في تراث تلك الشعوب ، بيد أن ميزتها الباذخة في تشكيل رؤيتها لعالم لا يسيره السحر، أو الشعوذة، أو الأساطير ، أو لعنة الحروب، بل تسيره جذوره الضاربة في عمق تاريخ وثقافة وحضارة ، رغم شتات الأرواح ،وتوتر لغة صادمة تعكس توتر الروح لتنسج حكاياتها- فتثري معرفتنا بثنائية الألم والشجن- فنقرأ كتابة مغايرة، ومغامرة عن عالم آخر يتشظى بصيرورة الهواجس الابداعية..يكاد يشكل من جديد كما الأمل.‏

نصف شمس صفراء وقصص أخرى - تأليف: شيماماندا نغوزي أديشي - ترجمها عن الانكليزية: كريم راشد - الناشر: دار كنعان للدراسات والنشر- دمشق- - الطبعة الأولى: 2009‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية