تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


التذكر.. توظيف وجداني يكسب الهوية

كتب
الأربعاء 11-11-2009م
مفهوما الذاكرة والهوية، شأنهما شأن مفهوم الثقافة، أساسيان في ميدان العلوم الإنسانية والاجتماعية، فالاجماع موجود على الاعتراف أن الذاكرة إعادة بناء للماضي ينتقل من القوة إلى الفعل باستمرار أكثر مما هي إعادة أمينة لهذا الماضي:

(الذاكرة إطار في الواقع أكثر مما هي محتوى، رهان جاهز دائماً، مجموعة من الاستراتيجيات موجود قائم تكمن قيمته فيما نصنع به أكثر مما تكمن فيما هو عليه والفكرة التي مفادها أن التجارب الماضية ستكون مستظهرة محفوظة, هذا الكتاب (الذاكرة والهوية) لجويل كاندو محاولة في انتروبولوجيا الذاكرة والهوية، ويوجه هذا الفرع العلمي اهتمامه إلى الإنسان الذي تكمن خصوصيته في أنه حيوان اجتماعي وثقافي ، وينطوي الأخذ بالحسبان ، وعلى محمل الجد - هذه الخصوصية على أن الأنتروبولوجيا تعكف على أن توضح إيضاحاً دقيقاً ما أمكن أشكال بلوغ الإنسان وضعه بوصفه موجوداً اجتماعياً وثقافياً , ما يهلكنا إنما هو الزمن وذلك وضع لا يفلت من أي وجود فالزمن المحسوب كل ثانية يفترس كل حياة ودون رحمة افتراساً ميكانيكياً كحشرة عنيدة إذ يكمل على هذا النحو عمله عمل التفكك والانحلال ، والزمن الحالي، المحتضر بطبيعته (بورخيس يقتبس ذلك من أرسطو وسان أوغسطين) جاهز لأن يتلاشى في الماضي خلال اللحظة التي يعلن فيها ما سيحدث فمرور الزمن لهذا السبب يهدد الأفراد والجماعات في وجودهم نفسه فكيف توقف هذا الزمن المخرب «هذا العدو» وكيف نتخلص من عمله غير المتماسك، عديم المبالاة غير الشخصي والمدمر وكيف نتحرر من التدمير الكلي الذي يحدد به كل حياة، فالذاكرة ستقدم لنا الوهم الخادع؟ ما مضى لم يتناوله الغناء بصورة نهائية لأن ثمة إمكاناً لاستعادته بفضل الذكرى.‏

ويتعلم الإنسان بالعودة إلى الماضي أن يتحمل المدة الزمنية إنه يجمع بقايا ما كان ليبني ما يكون صورة جديدة قد تساعده في أن يواجه حياته الحالية في رأي القديس أوغسطين أن «الفكر إنما هو الذاكرة نفسها» وكان يونويل يقول أن يبدأ بعقد الذاكرة ولو جزئياً ليفهم أنها هي «ما يصنع كل حياتنا».‏

فمعرفة الذات، يلاحظ جون إيف «كوست» تسلك بالضرورة دروب ذاكرة المرء نفسه «إن آلهة الذاكرة مفتاح الوعي وهي المصدر الأولي كما نسميه الهوية: الذاكرة تصنعنا ونحن نصنع الذاكرة فالذاكرة تصوغنا ونحن نصوغ الذاكرة بدورنا، ذلك يلخص تلخيصاً تاماً جدل الذاكرة والهوية اللتين تقترن الواحدة منهما بالأخرى، وتخصب كل منها الأخرى بالتبادل، وتذوب الواحدة منهما في الأخرى بالتبادل وتذوب الواحدة منهما في الأخرى، ويتجدد هذا الذوبان بهدف إنتاج مسار للحياة تاريخ أسطورة «قصة» ويبقى النسيان وحدة بالتأكيد ويكون هذا الجدل المعقد موضوع أعمال في أعمال لا تحصى في العلوم الإنسانية والاجتماعية ، وتؤكد أغلبية الباحثين أهمية هذا المجال من الدراسة لفهم الظاهرات الإنسانية والاجتماعية إنهم يلحون أيضاً على الضوابط المشتركة في الجوهرين الذاكرة والهوية وعلى واقع مفاده أن الذاكرة ، القدرة الأولى تغذي الهوية ، وإذا كانت الهوية والذاكرة والتراث هي (الكلمات الثلاث المفاتيح للوعي المعاصر).‏

بوسعنا مع ذلك أن نقلصها إلى كلمتين إذا قبلنا أن التراث بعد من أبعاد الذاكرة فإن الذاكرة، يؤكد بعضهم هي التي تدعم الهوية على المستوى الفردي والجمعي على حد سواء: وهكذا فإن رد الاعتبار إلى ذاكرة شخص ميت يعني رد الاعتبار إلى هويته فعمل الذاكرة في رأي «ان موكس» هو العمل في بناء هوية الفرد.. فالذكريات القليلة التي تحتفظ بها لكل عصر من عصور حياتنا، يلاحظ هالبوكس أنه يعاد إنتاجها باستمرار وتتيح أن يتأبد «شعورنا بهويتنا» كما لو أن ذلك يحدث بفعل توالد مستمر».‏

مفهوما «الهوية» و«الذاكرة» ملتبسان ، ذلك أن كليهما يفهم في ظل مصطلح واحد هو مصطلح التصورات وهو مفهوم إجرائي في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية فالإحالة تكون إلى حالة بالنسبة للهوية وإلى قدرة بالنسبة للذاكرة.‏

ثمة ثلاث ملاحظات خلاصية بصورة مؤقتة تبدو للكاتب جويل كاندو ممكنة في نهاية كتابه (الذاكرة والهوية) حيث تنشد الملاحظة الأولى أن تحذر من خطر التثمين والتفسير المضاعف لعمل الذاكرة والهوية الوظيفي. وتمس الملاحظة الثانية ذلك الالتباس الأصلي الخاص بهذا العمل الوظيفي، والملاحظة الأخيرة هي -وستظل- استفهام ينصب على إمكان أن يكون ثمة ذاكرة وهوية «مناسبتان».‏

فأي مكان يحتله بصورة واقعية ذلك البحث عن الذاكرة والهوية في المجتمعات الحديثة؟ يميل الأنتروبولوجي الذي تستغرقه دراسة هاتين الظاهرتين استغراقاً كلياً ميلاً طبيعياً إلى أن يمنحها دوراً فائقاً، ولكنه يتعرض في هذا المجال شأنه شأن الخزفي، إلى الخطو الذي مفاده أن يصبح عبداً للصلصال، أليس لديه ميل إلى أن يبالغ في أهمية الظاهرتين اللتين تؤديان باستثناء بعض مراحل الأزمة، دوراً ربما يكون أقل أهمية مما يعتقد في حياة الأفراد الذين يحرصون قبل كل شيء حرصاً في المستوى الأول، أن يعملوا ويتعبوا، ويؤمنوا معيشة أسرتهم وأن يتمتعوا بالزمن الذي ينقضي تماماً ترافقه الصعوبة على الغالب؟ يكون من السديد دائماً أن يعيش 1.3 مليار من سكان كوكب الأرض بأقل من دولار يومياً، أن نؤكد أن (مسألة الهويات موجودة في قلب المناظرة السياسية) وأن الإرث يوجد في قلب هذا «المشكل» من المحتمل أن تكون الاهتمامات الرئيسية لهؤلاء الأفراد أنفسهم ليست ذات علاقة بالهوية ولا بالإرث أو الذاكرة حتى وإن كان ثمة دول وأحزاب أو تيارات دينية، وفكرية تسعى جاهدة إلى أن تجعلهم يعتقدون العكس.‏

إن الخطاب الذي يعتمد على الذاكرة الشارحة هو الذي في الواقع، ينقل وهم تأكيد ذي علاقة بالهوية قائماً على الدوام والاشتراك في هذا الخطاب هما اللذان يمنحان التأكيد ذا العلاقة بالهوية محتوى معيناً , فمن جهة أخرى يؤكد الكاتب أن الأفراد القادرين على أن يتحملوا حمولات ذاكرية إضافية عاجزون على الغالب عن منح المعلومات المكتسبة هذه المعلومات معروضة عندئذ ولكنها غير متمثلة إلا نادراً.‏

اتسعت الذاكرة الإنسانية إلى حد لم يعد ممكناً لأي ذاكرة فردية أن تزعم أنها تضم محتواها، ونلاحظ في نهاية الألفية الثانية تسارعاً لامثيل في هذا التوسع للذاكرة إلى حد يمكننا أن نعرف الحداثة أنها ترميز العالم والإفراط في ترميزه الكلي إذ يتميز كل آن بإنتاج غزير للمعلومات للآثار والصور. وثمة إنتاج للمعلومات الجديدة خلال السنين الثلاثين الأخيرة أكثر مما جرى إنتاجه خلال خمسة آلاف سنة سابقة، وثمة‏

أكثر من ألف كتاب ينشر يومياً في العالم، وجرى حساب مفاده أن طبعة من نيويورك تايمز نهاية الأسبوع كانت تحتوي من المعلومات أكثر مما كان ممكناً لشخص عادي يعيش خلال القرن السابع عشر في انكلترا أن يصادفه طوال وجوده وبسبب الزيادة السريعة لعدد الهواتف الجوالة والفاكسات والموديم وسبب الميل العام إلى خفض تكاليف الاتصالات يكرس الناس زمناً لتبادل الرسائل والأخبار تكريساً متتالياً قضى سكان المعمورة خلال 1995 زمناً قدره 60 مليار دقيقة في استخدام الهاتف مقابل 15مليار عام 1985..‏

الكتاب: الذاكرة والهوية - تأليف : جويل كاندو - ترجمة: وجيه أسعد - الصادر عن وزارة الثقافة 2009 - قطع متوسط 283 صفحة‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية