تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مشروعية التريث في توقيع اتفاق الشراكة (السورية - الأوروبية )

اقتصاديات
الأربعاء 11-11-2009م
الدكتور محمد توفيق سماق

إثر الدعوة التي تلقتها سورية بشكل مفاجئ من وزير خارجية السويد الرئيسة الدورية للاتحاد الأوروبي لتوقيع اتفاق الشراكة (السورية_الأوروبية )أواخر تشرين أول (أكتوبر) الماضي

أعربت عن رغبتها في التريث بشأن التوقيع النهائي على الاتفاق لأنه بحاجة لمزيد من التدقيق والدراسة وربما المراجعة . بعد ذلك أعلن السيد الرئيس بشار الأسد أمام الصحفيين أثناء زيارته لكرواتيا أن سورية لن توقع على اتفاق شراكة لا يلبي مطالبها أو يخدم مصالحها .‏

السؤال الذي طُرح نتيجة لذلك في وسائل الإعلام وكتابات المهتمين والمحللين كان عن أسباب الموقف السوري هذا ؟ وعن القضايا التي تبرر مشروعيته ؟‏

الجواب البسيط والمباشر هنالك الكثير من الأسباب وهنالك الأكثر من القضايا التي أوصلت لهذا الموقف وبررت مشروعيته ، منها :‏

تردد الموقف الأوروبي وضعفه‏

اتسم الموقف الأوروبي من مسألة التوقيع النهائي على اتفاق الشراكة مع سورية بالتردد والضعف على مدى أكثر من خمس سنوات.فالاتفاق الذي نحن بصدد الحديث عنه أُعد ودُقق بعد 16 جولة مفاوضات ، أربع منها استكشافية عقدت خلال الفترة (7/1996-7/1997 )و12جولة مفاوضات رسمية انعقدت بالتناوب بين بروكسل ودمشق خلال الفترة (5/1998-12/2003 ). اتفاق الشراكة هو وثيقة كبيرة الحجم تتكون من 11بابا و 143 مادة و3 تصاريح و4 إعلانات و8 ملاحق و8 بروتوكولات ، فمثلاً : باب للحوار السياسي ، وباب للتبادل التجاري ، وباب للتعاون الاقتصادي ...كذلك ملحق خاص بالمشتريات الحكومية وآخر لقواعد المنشأ ... وغير ذلك . تم التوقيع على هذا الاتفاق بالأحرف الأولى في مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل بتاريخ 19/10/2004 ثم أعيد التوقيع عليه ثانية أيضاً بالأحرف الأولى في دمشق بتاريخ 14/12/2008 .كان حديث الأوروبيين أثناء حفل التوقيع الأول أن التوقيع النهائي سيتم خلال الأشهر اللاحقة وكحد أقصى حتى نهاية عام 2005 عند احتفال الاتحاد بالذكرى العاشرة لصدور إعلان برشلونة (صدر الإعلان في 28/11/1995 ) وهذا ما أكده المسؤولون الأوروبيون الذين حضروا حفل التوقيع وفي مقدمتهم كريس باتن مفوض الاتحاد الأوروبي في حينه للشؤون الخارجية الذي مثل الجانب الأوروبي في حفل التوقيع وكنت شاهداً على ذلك بصفتي عضواً في الوفد السوري المفاوض لاتفاق الشراكة والذي دُعي لحضور الحفل . منذ ذلك التاريخ بدأ الجانب الأوروبي بالمماطلة والتسويف بشأن موعد التوقيع النهائي على الاتفاق بدعاوى تحفظ بعض دول الاتحاد على بعض بنود الاتفاق أو تحفظ دول أخرى لدواع سياسية تتعلق بالوضع الإقليمي في المنطقة ... وماشابه . علماً بأن الاتفاق كما أشير سابقاً جاء بعد مفاوضات استمرت لأكثر من سبع سنوات أشبع الأوروبيون الاتفاق خلالها حواراً وجدلاً وتدقيقاً وأحياناً تعنتاً لذلك كان رأي معظم المهتمين من المراقبين والمحللين أن المماطلة الأوروبية لم تكن في الجوهر إلا صدىً باهتاً لمواقف إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش تجاه سورية التي اتسمت بالصلف والضغط لدرجة التهديد في بعض الفترات . مما أكد صحة الاستنتاج السابق المواقف الأوروبية الأخرى المكملة في قضايا لاشأن مباشر لها باتفاق الشراكة كموقفهم الرافض لبيع مؤسسة الطيران السورية طائرات نقل مدنية من طراز اير باص أو حتى إجراء عمرة لما تملكه المؤسسة من طائرات نقل مدنية من هذا الطراز . تلك الطريقة من التعاطي الأوروبي خلق لدى الكثير من المراقبين الانطباع أن الاتحاد الأوروبي ليس شريكاً قوياً يمكن الرهان عليه في الأوقات الصعبة فعلاقته بالآخرين محكومة برضا الولايات المتحدة الأمريكية وتطورها مرهون بمباركتها ، مما يستحضر في الذهن بشكل ما علاقة أوروبا الشرقية بالاتحاد السوفييتي السابق حيث قبلت تلك الدول (راغبة أو كارهة ) أن تلعب دور الأطراف في العلاقة مع المركز في موسكو .لذلك كان من حق صانع القرار في سورية أن يسأل عن جدوى الإسراع في توقيع اتفاق الشراكة وشريكه متردد تحكمه اعتبارات الآخرين ومصالحهم خاصة في الأيام الصعبة ، فمن شروط الشراكة أيّاً كانت تقاسم الكلف والمنفعة أي الغرم والغنم أما إذا اقتصر الأمر على أيام الفرح والسعادة فلا داعي للعجلة ولا مبرر للاستعجال أوليس الأمر سيان فرحت وحيداً أم فرحت بحضور الشريك؟‏

الاعتبارات الاقتصادية‏

بحكم نصوص الاتفاق وتجارب الدول الأخرى التي أبرمت اتفاقات شراكة مع الاتحاد الأوروبي في إطار عملية برشلونة وُضعت موضع التطبيق يمكننا التنبيه إلى العديد من القضايا التي تستحق التأمل والدراسة تحسب على الطرف الأوروبي وتدفع للتخفيف من سرعة الاندفاع باتجاه الشراكة ونرى أن تكون موضوعاً للمراجعة والحوار معه إذا أتيحت الفرصة لذلك ، من بينها :‏

إن الأسواق الأوروبية كما هو معروف مفتوحة للسلع الصناعية من أي بلد كان وبالتالي لن يضيف الاتفاق جديداً هاماً للصادرات السورية من السلع الصناعية . بالمقابل ستدخل الصناعة السورية في السوق المحلية في منافسة حادة مع المنتجات المماثلة أو الشبيهة من دول الاتحاد الأوروبي ، حيث نتوقع تراجع حصتها من هذه السوق وربما أدى ذلك إلى إفلاس أو إغلاق بعض المنشآت الصناعية بحكم فارق التطور الكبير بين الطرفين.‏

بالإضافة إلى ذلك ستطبق قواعد المنشأ الأوروبية على الصادرات السورية إلى دول الاتحاد الأوروبي , وهي من القواعد المعقدة التي تحتاج إلى شروط صعبة لتلبيتها مما يجعل الصادرات السورية إلى الأسواق الأوروبية محكومة بشروط صعبة التحقيق و تتطلب سوية علمية وتكنولوجية عالية لا تتحقق في الكثير من منشآتنا الصناعية . و على الصادرات السورية أيضاً أن تلبي شروط المواصفات القياسية و التشريعات الفنية الأوروبية وهي مواصفات و شروط صعبة كما أنه يمكن القول بحكم التجربة أن الطرف الأوروبي يستخدم تلك المواصفات و الاشتراطات الفنية لإعاقة حركة الصادرات إلى أسواقه مما يعني أن الأوروبيين يعطون مزايا تفضيلية بيد و يلغونها بالأخرى تحت عناوين المواصفات القياسية و التشريعات الفنية . فمثلاً أعطيت تونس حصة كبيرة نسبياً من زيت الزيتون لتصديرها إلى الأسواق الأوروبية معفاة من الرسوم الجمركية لكن حسب معلوماتنا لم تستطع الاستفادة إلا من جزء يسير من هذه الحصة بدعوى عدم تلبية الزيت التونسي للشروط الفنية الأوروبية ويمكن أن ينطبق ذلك على الزيت السوري و العديد من الصادرات السورية في حال كان هنالك رغبة لتصديرها إلى الأسواق الأوروبية , هذا ما نسميه وفق القواعد المعمول بها في منظمة التجارة العالمية بالقيود و العوائق غير الجمركية و الطرف الأوروبي معروف عالمياً بوضع مثل هذه القيود و العوائق للحد من انسياب السلع إلى أسواقه . كما نصت المادة 15 من اتفاق الشراكة على الإجراءات الاستثنائية التي يحق لسورية اتخاذها لفترة محدودة على شكل فرض رسوم جمركية أو زيادة معدلاتها فيما يتعلق بحماية الصناعات الناشئة أو قطاعات معينة في طور إعادة الهيكلة , أو تلك التي تواجه صعوبات جدّية تؤدي إلى مشكلات اجتماعية خطيرة . لكن سمحت هذه المادة لسورية بتطبيق تلك الإجراءات لفترة زمنية محدودة لاتتجاوز الخمس سنوات تنتهي بانتهاء الفترة الانتقالية كحد أقصى مع إمكانية مدها ثلاث سنوات إضافية في حال وافقت لجنة الشراكة على ذلك بشكل استثنائي.‏

إن هذا النص يضع الصناعة السورية القائمة و التي يمكن أن تنشأ مستقبلاً دون أية وسيلة للحماية بعد انتهاء الفترة الانتقالية ( 12 عاماً ) في حال تعرضت لمصاعب , وذلك ماهو متوقع بحكم طبائع الأشياء و فارق التطور و تجارب الآخرين. علماً بأن هذا النص يتناقض مع المواد (12 إلى 18) من اتفاقية الغات لعام 1947 و اتفاقية الغات لعام 1994 التي نصت في فصل خاص أسمته « إجراءات وقائية لأغراض التنمية « على أحقية تطبيق تلك الإجراءات في أي وقت كان شريطة أن تكون لفترة زمنية محدودة و أن لا تكون تمييزية و بالرغم من أن الغات هي مرجعية اتفاقيات الشراكة مع جميع دول إعلان برشلونة .‏

تأسيساً على ماسبق نرى أن لهذا الاتفاق آثاراً عديدة على الاقتصاد السوري في حال تطبيقه . للتخفيف من تلك الآثار لابد من إعادة تأهيل و تحديث اقتصادنا مما يقتضي من الجانب الأوروبي كشريك تقديم دعم حقيقي عن طريق مساعدات مالية مباشرة أو قروض ميسرة مع المساهمة في تطوير القدرات العلمية و المهارات التكنولوجية لقوة العمل السورية. أثناء مفاوضات الشراكة طرح الأوروبيون مايسمونه المساعدة الفنية من خلال برامج معينة مخصصة لدول إعلان برشلونة المتوسطية و التي تبين لاحقاً أنها في معظمها ليست أكثر من دراسات مكررة لاجدوى منها مكررة توضع في الغالب جانباً حيث أنها لاتضيف جديداً هاماً , بخبراء يستقدمهم الطرف الأوروبي و يتقاضون أجوراً عالية تستهلك معظم تلك المساعدات . نرى إثارة تلك القضايا وما شابهها مع الشريك الأوروبي مجدداً قبل التوقيع النهائي على الاتفاق .‏

طول الزمن وتغير الظروف‏

بإيجاز يمكن القول أن إعلان برشلونة وبعد مضي نحو 14 عاماً على صدوره لم يستطع تحقيق ما التزم به من« تحويل حوض المتوسط إلى منطقة حوار وتبادل وتعاون يؤمن السلام والاستقرار والازدهار » فأين الواقع من تلك الالتزامات ؟ أين السلام والاستقرار في منطقة سلامها هدنة بين حربين واستقرارها فرصة تهيئة لصراع أو إعداد لحرب ؟‏

وأين الازدهار في بحر تحولت مياهه إلى مقابر للمحرومين من المهاجرين غير الشرعيين في قوارب الموت من جنوبه والحالمين بفرصة عيش كريم في شماله ؟‏

تلك الوقائع وغيرها قللت ليس فقط من حماس دول المتوسط بل من حماس الأوروبيين أنفسهم لإعلان برشلونة واتفاقياته .فالرئيس الفرنسي ساركوزي طرح الاتحاد من أجل المتوسط بديلاً ضمنياً لعملية برشلونة ، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أقرت في أكثر من مناسبة بقصور إعلان برشلونة عن تحقيق غاياته وأهدافه ؟ !‏

جملة القول إن للتريث السوري في التوقيع على اتفاق الشراكة مشروعيته المستمدة من حقائق الواقع ودروس الزمن . مع ذلك ودفعاً لأي التباس محتمل أو سوء فهم غير مقصود أرى من الضروري التوضيح بأن التريث _ وفق ما أرى _ لا يعني التخلي عن الاتفاق بل قد يعني الحرص على الشراكة بمصارحة الشريك لتحقيق شراكة متوازنة تدوم وتتطور فتعزز علاقة عريقة بين طرفيها شكلتها حقائق الجغرافية وصنعتها وقائع التاريخ كما اقتضتها ضرورات الحاضر .‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية