|
شؤون سياسية وهذا مفهوم يتناغم مع معجم مابعد الحداثة بالمعنى الذي تكرسه العولمة بعيداً عن دلالاتها الإيجابية التي كتب عنها قبل نصف قرن ماكلو هان وينسب إليه اشتقاق هذا المصطلح. السياسة أيضاً حرب، ولكن بوسائل أخرى، لهذا فهي لها حروبها الاستباقية أيضاً، والتي تسعى إلى إجهاض الخصم أو تدمير ممتلكاته قبل أن تتحقق مجمل مامارسته الدبلوماسية الصهيونية خلال العام الماضي يندرج في هذه الخانة، خصوصاً ماتعلق منه بإجهاض المشروع الفلسطيني المعلن حول إعلان الدولة من طرف واحد. وتلخصت استراتيجية هذه الحرب السياسية الاستباقية في مسألتين، الأولى محاولة التأثير في أكثر من ثلاثين دولة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية للعدول عن اعترافها بالدولة الفلسطينية، والمسألة الثانية افتعال عقبات تحول دون استئناف عملية السلام، وأولى هذه العقبات هي الاستيطان، الذي راوح أعواماً بين ما سمي التجميد، وما هو بالفعل تجديد ومضاعفة للنشاط الاستيطاني الذي يقترن بتهجير أعداد جديدة من الفلسطينيين. والأمر الذي يعرفه الجميع أن الولايات المتحدة بدأت منذ فترة طويلة السعي بأن تكون لها هيمنة على الشرق الأوسط ومنع أي دول أخرى في العالم من أن يكون لها نفوذ يؤثر على النفوذ الأميركي في المنطقة بما في ذلك حلفاؤها الأوروبيون. وتعتبر الولايات المتحدة «اسرائيل» الشريك الاستراتيجي المهم بالمنطقة والوكيل الذي يمكنه أن يضمن استمرار هذه السيطرة على الشرق الأوسط، ولذلك دعمت «اسرائيل» اقتصادياً وعسكرياً، بل وقفت إلى جانبها في كل حروبها مع العالم العربي وبتعبير أدق ضد دول الطوق كما تسميها «اسرائيل» وهي مصر وسورية والأردن ولبنان والشعب الفلسطيني. وقد قال وزير الخارجية الأميركي الأسبق كيسنجر أن تطورات الأحداث ابتداء من ربيع 1973 تشير إلى أن الولايات المتحدة اختارت وقررت سياسة واستراتيجية جديدة ترتكز على الإمساك بزمام عملية البحث عن حل لأزمة الشرق الأوسط، على أن يتم ذلك على أساس سياسة الخطوة خطوة بحيث يتوافق ذلك مع السيطرة على مصادر الطاقة. واعتبار «اسرائيل» وسيلة للردع الأساسية في منطقة الشرق الأوسط ورفع درجة العلاقات الأميركية معها إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية لأن «اسرائيل» هي العنصر الذي أدى إلى أن يقبل العرب حلاً أميركياً لأزمة الشرق الأوسط وأن التهديد الاسرائيلي للعرب هو الضمان لهرولتهم إلى البيت الأبيض وكسر تحالف تشرين الذي جمع قوات مصر وسورية لشن حرب 1973 وأي تحالف عربي قادر على القتال وخلق حساسيات بين العرب والعالم الثالث وخاصة إفريقيا. وإذا كان لكل سيف درع منذ أقدم الحروب التي عرفتها البشرية وهو ثنائية الهجوم والدفاع، فإن الحرب شنتها حكومة نتنياهو بثالوثها الراديكالي المتعصب لم تجد الدرع العربي الكافي لصد هجماتها، ليس فقط لأن العرب منشغلون في شجونهم، بل لأن ما دأبوا عليه من ردود أفعال بقي في نطاق الشجب الممنوع من الصرف، أو تفريغ شحنات الغضب في خطاب استهلاكي سرعان ما تتلاشى أصداؤه في النطاق المحلي. إن افرازات الصراع العربي الصهيوني الذي بدأ منذ قرن وما قبل وعد بلفور عام 1917 كثيرة، ومنها ما ترسخ من أساليب التعامل مع المجتمع الدولي والإقليمي، إضافة إلى نمط الخطاب الذي ينتمي بقاموسه ومجمل مفرداته ومنطقه إلى حقبة ولت. وإذا كان هذا الصراع قد تعرض لعمليات تدجين من خلال معاهدات سلام منفردة، فإنه بسبب حيثياته وتعقيد القضية التي شكلت محوره غالباً ما يعاد إلى مربعه الأول، طالما هناك ثلاث قضايا تصر الحكومات المتعاقبة في «تل أبيب» على استبعادها من أي تفاوض وهي عودة اللاجئين والقدس والاعتذار. وخطورة الحروب الاستباقية في مجال السياسة أنها لاترى أو ترصد ميدانياً كما هو الحال في الحروب الاستباقية العسكرية، والكثير من معارك هذه الحروب يدور وراء الكواليس بحيث يحتاج الكشف عنه إلى عدة ويكليكسات قد يأزف أوانها ذات يوم. وحين يكون هناك عدو يشهر ثوابته على الملأ، ومنها تهويد القدس وتأييدها عاصمة للكيان الصهيوني واقصاء موضوع اللاجئين، إضافة إلى مطالبة العرب بالاعتراف بهذا الكيان، فإن المجال يكون رحباً أمام الطرف الآخر، لكنه بسبب الخلل العميق في موازين القوة وأحياناً بسبب ادمان سياسة النعامة يرفض التعامل مع هذه الثوابت، ويراهن أحياناً على خلخلتها سواء بالضغوط الدولية أو بالمتغيرات التي تطرأ على العالم. فهل يمكن لدفاعات ما قبل الحداثة وخطاب النصف الأول من القرن العشرين أن تكون الدرع الكافي لصد مثل هذه الحروب الإجهاضية؟!. |
|