|
ثقافة فالرواية لاتخرج عن هذه النزعة من دون أن تكون تكراراً لبنية الروايتين الأوليين، لذا جاءت حكاية عن اللوياثان العربي الفظيع، رواية لا تلتزم بزمن معين، بل تقفز من زمن هذه الشخصية إلى زمن تلك، تتراوح بين داخل الشخصية وخارج المكان الروائي،
تتردد بين قراءة باطنية للشخصيات ونكهة الضباب الداكن، يقدم حيدر حيدر هذا كله من خلال راوي خيمة الكركوز (مسرح الظل). فالراوي مراقب للحدث، يسرده، يصفه، فيصبح شخصية روائية. وتتجلى الأحداث على شاشة ذاكرة رجل القطار: ناجي العبد الله، وتتعدد أصواته وتنصهر. والحكاية ليست تماماً حكاية دميانة أنثى البحر الشرقية التي افتضها موج المراهقة باحتمال عساكره، وليست تماماً حكاية الحرب اللبنانية، وليست حكاية ناجي العبد الله الذي يحمل رائحة الموت الآدمي في أنفه المهاجر.
إنها تقاطع هذه الحكايات وتداخلها على مرايا النار، أما الزمن في الرواية فهو زمن المرأة السائلة والرجل البخار، زمن (المرأة الغريبة في المدينة الغريبة التي تحلم بالرجل الغريب المعرّى من الأسلاك والفخاخ والماضي الموحل، الرجل الباحث في أرشيف الظلمة عن امرأة الزمن المشع. إنها هنا تخفق كطائر الخطاف في سماء بلون البحار وصفائها، المرأة الملعونة هدية الرجل الملعون في زمن العواصف والاضطراب، في الزمن الروائي). هو زمن الرجل المحاصر، زمن يوقظ الماضوي، زمن الحرب الهلامي الذي يعشش في ذاكرة الشخصية وتفرض دراميته طقوسها الضبابية على مساحة مديدة من الرواية فتختار لها اللغة الحادة والكنايات الموشحة بالنشادر والطائرات، وهو زمن الفضيحة، زمن هلامي يلتجئ إلى ذاكرة الشخصية الثانية (دميانة) فارضاً مستوى حركيته على ما تأخر من أحداث، لاذعاً كانحسار الثياب الشقيقة عن بياض المخبوءات كما تقول الرواية.
يقسم حيدر حيدر الرواية إلى أزمنة / فصول عدة، وهي على التتالي: زمن الحكاية، زمن الورد، زمن العار، زمن الهروب، زمن الغيرة، والزمان يحمل مكاناً ضمنياً يشكل خريطة تمتد بين المدينة المغربية وبيروت ليتهيكل فراغ جدلي يمكن للقارئ أن يتبنّى مهمة استحضاره. تشكل رواية (شموس الغجر) المفصل الرابع في سيرورة الرواية عند حيدر حيدر، حيث يغتني أسلوب تيار الوعي بتقنيات ولغاتٍ قادرة على الغوص في الأساطير المعيشة للبشر وأزماتهم الراهنة العميقة التي قد تمتد إلى الماضي، لكنّ بؤرتها ومركزها الواضح هو الواقع الراهن وتتجه نزعة تيار الوعي نحو تعميق الشكل الواقعي للرواية حيث تتجسد في الرواية القضايا الكبرى التي ينشدُّ إليها القارئ العربي.
تقول الرواية (الزمن القادم ليس لهم. حين نخرج من دم العائلة ودم الآلهة ودم السلطة الجائرة نولد من جديد تحت الشمس). إنها حكاية عائلة في السهول الخصبة على مشارف البحر، تفتح نوافذها على تاريخ سورية منذ منتصف الخمسينيات إلى يومنا هذا. تبدأ من تمرد بدر الدين النبهان على الموروث القديم المتمثل في شخص الأب الإمام سعيد آل نبهان. ويربي بدر الدين ابنته راوية على هذا التمرد. لكنه يتهاوى بعد اعتقاله ويقبل المساومة مع أجهزة الأمن، يستنكر علمانيته وينكص نحو الطائفة ويعلن استسلامه للسلطة: (كان لابد من أن أتنازل وأتراجع قليلاً، إن أخي هامتي حتى لاتهانوا ولا تذلّوا وتجوعوا. أن أوافق على انتساب نذير إلى الكلية العسكرية ليحمينا). وتفقد راوية أهم سند لها أباها، ليبرز الابن نذير، ربيب العسكريتاريا. ومع سقوط الأب تسقط رموز التنوير، ويتراجع المد الثوري، وتنهار المنظومة الاشتراكية، يتوحش العالم، وتتحول الإمبريالية إلى عولمة، لكنها عولمة تغذي صراعات قبلية وطائفية وعرقية واثنية وعنصرية. قل ماشئت، المهم أن تحوّل الصراع عن مساره، وتبقى راوية تبحث عن انتماء، وتبقى راوية أملاً، جميلة كالبحر، لكنها الرمل الفار من فرج الأصابع. ولدت راوية على يدي غجرية في الحقل بما تمثل الغجرية ويمثل الحقل فصارت الغجرية أماً ثانية لها، بل أماً حقيقية، لا تمثل جيلاً فحسب، ولاتمثل فتاة شرقية عربية وحسب، بل تمثل أولئك الذين نزعوا أنفسهم من شرانق الموروث والمفروض والمطلوب. حين تهبط الظلمات من كل فج عميق، هل في الأفق أمل بضوء لنا، نحن غجر هذا الزمان؟ شكلت روايات حيدر حيدر نصاً روائياً جديداً يحاور ما سبقه ويضيف إليه الجديد. نصاً يبدو فيه الماضي زمناً انقضى، ويبدو الحاضر زمناً نجيباً. نصاً تتجسد خصوصيته في تمثل الذات الإنسانية الحرة التي تخلف وراءها شيئاً فشيئاً زمن الكليات المغلقة لتدخل زمن الخصوصيات المفتوحة. |
|