|
كتب السيرة الذاتية والعبر ذاتية في الرواية, خصائص معروفة مبدئياً, كذلك في الشعر ظهرتْ بمفهوم الغنائية وهذه أخذتْ تجليات عديدة ولربما آخرها كتابة المكان وتحين الزمن لإظهار صوت الأنا سواء بالصوت؛ بتوجيه الخطاب لذات القائل أو استدراجه عبر آخر, سواء بأطلاله, ظلاله, سطوة غيابه, وانتظاره, حضوره.... . إن محاولة كتابة الذات, نرجسية واعية, يروم من خلالها الشاعر تطمين قلقه أو تدثير الغموض بمعطف الألفة. «هي أنا/ الخلاسيةُ/التي تركتَها سنواتٍ تُربّي شَعرَها/ في ضواحي إشبيليّة/وتغزلُ مع الغجريات/فساتينَ واسعةً/ بكرانيشَ زرقاءَ/ تناسبُ أحزانَ الفلامنكو.». المقطع السابق من قصيدة «الخلاسية «يعتبر كمبتدأ, فاطمة ناعوت في ديوانها « صانع الفرح» وكأنها بذلك توجه دفة القارئ لكي يتلصص على سيرتها, فمتعة التلصص هي بؤرة إيصال القراءة للحظة تختلط فيها الأوراق وتصبح سيرة الشاعرة هي سيرة القارئ أو بالأحرى سيرة هذا الغائب الذي تارة, يكون الحبيب أو الأم أو ذات الشاعرة نفسها, أليس ذلك من أهداف الرواية, بأن يصبح المرسل إليه في النص كما يقول أمبرتو أيكو, هو ذاته القارئ خارج النص!؟, فتأسيس المكان وتحين الزمن في القصيدة, ينجز هذا الأمر وتنمزج به الأنوات المختلفة المتعالقة مع النص» لكنَّها/ سوف تخطفُه من يده/ ليندسّا في زاويةٍ مُشَجَّرة/ بعيدًا عن عيون المارّة والبصّاصين/ تمامًا/ كأنهما مراهقان صغيران يتعلمان الحبّ/ما همَّ أبدًا أن يكونا/ قد تجاوزا الخامسةَ والخمسين/بقليل.» نستطيع أن نجد ثلاث عتبات دلالية, تعتبر مفاتيح نصية لينجز الخطاب الشعري في ديوان فاطمة مسعاه, الأول: يمكن فيها كذات والثاني: في الأم والثالث: في الحبيب الذي ينوس بينها وبين الأم من حيث الأم كزمن ماض, تُظهر الشاعرة طفولتها وريعان صباها من خلالها والحبيب كحاضر بالغياب وقادماً من المستقبل, يتجلى قلقها. الأم/ الساعة: « كانت في بيتكِ قبل عام / بيتنا القديم / هي الآن في بيتي/ على الحائط المقابلِ صورتك / في فستان زفافِك إلى أبي/ هل قابلتِ أبي بعدُ؟ / هو هناك منذ عشرين عامًا/ لابد أنه ابتنى لنا بيتًا/ وزرعَ حوله حديقةً ونخلاً وبحيرة.» من قصيدة « ساعة الحائط» المهداة لأم الشاعرة. جدلية الأم/ الساعة جدلية الزمن وفقدانه, حيث الأم مرتبطة بساعة الحائط إن توقف رنينها يعني توقف الحياة, لذلك الشاعرة حريصة على أن تملأ الساعة بالوقت, الوقت الذي هو الذكريات, لكي تستمر الطفولة حاضرة وتمنح الفرح أو الطمأنينة المفتقدة ,فتطلب من حبيبها أن يعيدها الأم كدلالة والشاعرة كدال, هذه الثنائية المتلاحمة تريد الشاعرة إعادة إنتاجها, وذلك بأن تكون أمّاً/ أمّها وأن يكون الحبيب أيضاً أمّها, فالأب الغائب من فترة طويلة جعل من الحبيب بدلاً عن الأم وليس عن الوالد» سأقول أيضًا:/ حبيبي شاعرٌ/ يعرفُ كيف يربتُ علي ظهري بحُنو أمٍّ / ويُضفِّرُ جديلتي في شريطةٍ بيضاء/ ثم يمسح عن جبيني/ وجعَ التوحُّد.» من قصيدة « شباك أمي». الغياب كحبيب: هذه الازدواجية السابقة بين الأم والحبيب, تسمح بدخول العتبة الثالثة أي الحبيب. في الحضور يسقط الكلام, الغياب بنجز البوح, فغياب الأم مبرر لكن غياب الحبيب يصبغه الشك ولا سعفه التبرير « وهناك / في قاعِ سلَّةِ الغسيل/ ترقدُ بيجامتُكَ / تتقلَّصُ مثل جنين/ يرفضُ الخروجَ إلى العالم « من قصيدة « بيتي طابور خامس» وهي إذ تكتب غيابه تكتب ذاتها الوحيدة والتي تتمثل بحركة النوسان بين قوسي الأم والحبيب وهي الشطر الأكبر من الديوان كخلفية ترسم عليها ناعوت مكانها وزمانها, فتملأ القصائد بالأمكنة والأشياء وأزمنة السفر وثيابها وأنوثتها التي تنتظر أن يأتي الحبيب, فيفك إعجامها لكن العجمة هنا مصيدة تنصبها الشاعرة لتصطاد ذاتها وتفصح بها عن حبها « هي أنا،/ وأنتَ /تجوبُ العالمَ / تفتِّشُ عن نصفِكَ،/ ونصفُكَ هنا/ عند نهاية خيطٍ أثيري / حيثُ عينان أمام كوّةٍ إلكترونية/ تتلصصان على غرفتك / وأشيائك:/ مكتبٌ/ فوقه دفترٌ أحمرُ/ ومخطوطةٌ مبعثرة / وورقةُ مواعيدَ/ فيها موعدُ سفرِكَ القادم إلى هنا؟/ وعند الركن/ علبةٌ كبيرةٌ شاغرةٌ من الكرتون / كانت قبل برهة ترقدُ فيها/ عروسُ جيشا / تضعُ كيمونو / يدثّرُ جسدي.» من قصيدة « عروس الجيشا» وما سبق يمكن أن يضمن تحت عتبة الذات. السرد الشعري: تقوم قصيدة ناعوت على الصورة المقطعية, إذ تشتغل البنيات: الكلمة والجملة كمكونات تعف عن ذاتها لأجل الصورة المقطعية, هذا الأمر له وجهان: الإيجابي يتضمن التذوق الكتلي للمقطع مما يولد دهشة تؤسسها سهولة البنيات التي تعمر المقطع والثاني: السلبي يتضمن الأنسنة السلبية, فالأشياء تحضر كما هي, أي توقعها معروف وإنّ هذا فرضه موضوعة السرد إلا أنه خفف من وهج بنيات المقطع الشعري. ومن ضمن آليات السرد الشعري يظهر لنا تيار الوعي وهذا إنْ دعم الرواية بشدة إلا أن لا يناسب الشعر من حيث اشتغاله, الذي يتضمن الإطناب والتبرير والتعليل وهذه الصفات تضعف الدفقة الشعرية التي تقوم على صدمة الكشف حيث الشعر ريادة في المجهول. الصورة جاءت متقشفة وهذا مقصود من قبل فاطمة, فقصيدتها, قصيدة إطار, تهدف من خلالها لضبط الزمان والمكان والحالات النفسية التي اعترتها لكن وسعت ضفتي المجاز مما أعطى للمقطع في القصيدة إحالة بعيدة المدى. لا ريب, إن التجريب يحمل مخاطره لكن روعة التجربة سواء الكتابية من قبل الشاعر والقرائية من قبل القارئ, تبرر وتدعم العودة للصلصال البدئي واكتشاف خزف لم يوضع على قبل. صانع الفرح ديوان فاطمة ناعوت صادر عن دار ميريت القاهرة لعام 2012 |
|